-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الحلقة الأولى

التنافي البرلماني في النظام القانوني الجزائري

موسى بودهان
  • 1197
  • 0
التنافي البرلماني في النظام القانوني الجزائري

حضي موضوع التنافي، لاسيما في الآونة الأخيرة، باهتمام كبير، إن في الأوساط الإعلامية والثقافية عموما أو في الأوساط البرلمانية خصوصا، وهذا بعد أن طفت إلى السطح وسادت الساحة الإعلامية والسياسية الوطنية أنباءٌ عن تواجد بعض البرلمانيين -إما جهلا بحسن نية أو تجاهلا بسبق إصرار وترصد- في وضعيات أبسط ما يقال عنها إنها تتعارض مع العهدة البرلمانية بل وتخرق النصوص والأحكام الدستورية والقانونية السارية المفعول في هذا المجال لاسيما من حيث الفصل بين السلطات: التنفيذية “الحكومة”، القضائية “القضاء”، التشريعية “البرلمان” واستقلالية المشرِّع خاصة وتعارض المصالح عامة، إلى جانب مساسها بنبل وسموّ العهدة التشريعية.

فضلا عن كونها وضعيات ستعرقل، لا محالة، مسارات الإصلاحات الدستورية والقانونية والسياسية الحكيمة التي باشرتها وتقوم بها الجزائر من خلال رئيسها، السيد عبد المجيد تبون، منذ توليه سدة الحكم وقيادة البلاد، خاصة في تجسيد التزاماته الـ54 على كافة الأصعدة والمستويات بغية ضمان التكريس الحقيقي والتجسيد الفعلي لمبادئ وأسس دولة الحق والقانون، بما في ذلك مبدأ الفصل بين السلطات واستبعاد أي صنف من أصناف التبعية لأي سلطة لأخرى -وبخاصة البرلمان الذي يعدّ، حقيقة، صاحب السلطة التشريعية الأصيل والممثل السيادي الفعلي للشعب- دستوريا وقانونيا وميدانيا على أرض الواقع.

ونظرا للمرونة الكبيرة التي تعامل بها السيد إبراهيم بوغالي رئيس المجلس الشعبي الوطني، في معالجته لهذه الإشكالية “إشكالية التنافي” المطروحة مع بعض النواب المعنيين بالتنافي بعد قراءته المتأنية والاستشرافية للأحكام الدستورية والقانونية الخاصة بالتنافي، إذ ذكّرهم، بداية، بالمهلة القانونية التي حددها المشرِّع بثلاثين يوما ثم مدَّدها لهم بحوار هادئ ومستمر. وهكذا إلى أن اقتنع الكثير منهم بالجهود الصادقة والمساعي الحميدة التي بذلها ويقوم بها رئيسُهم حماية لهم وحفاظا على سمعة المجلس واستقراره، فمنهم من تنازلوا عن سجلّاتهم التجارية وسوُّوا وضعياتهم، ومنهم من في الطريق إلى ذلك، وهذا طبقا لما أشارت إليه بعض الوسائط الإعلامية الوطنية.

وبما أن الحديث في هذا الموضوع سيتشعّب وسيطول وسيأخذ أبعادا سياسية وثقافية ودستورية وقانونية كثيرة ومتنوعة، من غير أدنى شك، فقد يكون من المفيد بمكان، لي شخصيا، التركيز على الجوانب الدستورية والقانونية وحدها دون غيرها من الجوانب الأخرى. وسنتناول، بتركيز شديد وبصفة حصرية، التنافي الخاص بالبرلمانيين فقط، من دون الخوض في حالات التنافي الأخرى المتعلقة بالقضاة والموظفين ورجال المهن الحرة من محامين وموثقين وأطباء ومحاسبين ومحضرين قضائيين ونحوهم. على أن يتم كل ذلك بالشكل التالي:

التنافي في الفقه الدستوري الجزائري خصوصا:

في الحقيقة ليس هناك تعريفٌ دقيق للتنافي في الفقه الدستوري الجزائري ولكن من خلال الحيثيات التي استند إليها المجلسُ الدستوري في رأيه الخاص بمراقبة مطابقة القانون العضوي 12-02 المحدِّد والضابط لحالات التنافي مع العهدة البرلمانية نؤكد ما قاله هذا المجلس في الحيثيات المشار إليها آنفا وهو “أن المؤسّس الدستوري بإقراره وفقا للمادة 105 من الدستور تحديد حالات التنافي مع العهدة البرلمانية، يستهدف تجنُّب عضو البرلمان الجمع بين وضعين قانونيين قد يُلحق ضررا بمهمته البرلمانية ويُنشئ تعارضا بين مهمته ومصالحه. كما أن نيته من وراء ذلك تمكين البرلماني من التفرُّغ كليا لعهدته، وبالتالي يبقى البرلمان وفيا لثقة الشعب ويظل متحسسا لتطلعاته، وفقا للمادة 105 من الدستور.”

التنافي في الدستور والقانون:

أودُّ أن أشير إلى أن الدستور الساري المفعول، لم يعرف هو الآخر التنافي مكتفيا بالتنصيص عليه في كثير من مواده كمبدأ عامّ تاركا تفصيل ذلك للقانون. وهذا أمرٌ طبيعي لأن الدساتير، عموما، تتناول فقط المبادئ والأسس العامة للقضايا الكبرى في الدولة ومؤسساتها والفصل فيما بينها وكذا الحقوق والحريات والواجبات وتترك تفاصيلها وجزئياتها للقوانين والتنظيمات.

أما في القانون وفي التشريع الجزائري تحديدا فيمكن القول إنه باستثناء المادّة 2 من القانون العضوي 12-02 المذكور أعلاه التي حاولت التنصيص على تعريف التنافي كما يلي: “يُقصد بالتنافي، بمفهوم هذا القانون العضوي، الجمعُ بين العضوية في البرلمان وعهدة انتخابية أخرى أو بينها وبين المهام أو الوظائف أو الأنشطة المحدَّدة في المواد أدناه”. قلت باستثناء هذه المادة، التي اكتفت بالتنصيص على التنافي الخاص بالعهدة البرلمانية، فإن القوانين الأخرى لم تتصدّ لتعريف التنافي إلا بشكل مقتضب وعلى استحياء كبير، إذ تناولت بعضَ المهن التمثيلية والوظائف العمومية في مستويات معينة دون أخرى، وهو ما دفع بعض رجال القانون المختصين إلى نعته بـ”التعريف الناقص الغامض القاصر المبهم” الذي من شأنه أن يبعث على التفسيرات الضيقة الخاطئة بل والتأويلات المغرضة.

الفرق بين التنافي والمصطلحات الأخرى المشابهة له

رغم التقارب الكبير والقواسم المشتركة بين ما يحمله مصطلح التنافي، وما تتضمّنه المصطلحات الأخرى المشابهة له، من مفاهيم ومقاصد، إلا أنه يمكن التمييز بينها انطلاقا من تكييف ووصف كل منها وكذا الآثار القانونية المترتبة على كل مصطلح فنجد مثلا:

– تعارض المصالح يشترك مع التنافي في أن المصدر المشترَك لكليهما هو الدستور خاصة في مادته 24. بينما يختلفان من حيث القانون الذي يحكم كلا منهما:

-التنافي يؤطره قانونٌ واحد هو القانون العضوي 12-02 المذكور أعلاه، أما تعارض المصالح فيحكمه قانونان عاديان: أحدهما لم يصدر بعد وهو القانون المنصوص عليه في المادة 24 من الدستور، والثاني هو القانون 06-01 الخاص بالوقاية من الفساد ومكافحته المعدل والمتمم لاسيما في مادتيه 34 و9.

– التنافي تنص عليه مجموعة كبيرة من المواد الدستورية هي 24، 125، 118، 123، 126 وغيرها، بينما تعارض المصالح تنص عليه مادة دستورية واحدة هي المادة 24 د.

– تعارض المصالح شبهة جزائية قد تتحول إلى “جريمة” جنحة أو ربما جناية، حسب الوصف أو التكييف الجزائي الذي يُمنح لها. عقوبتها الحبس من ستة أشهر إلى سنتين والغرامة من خمسين ألف دينار إلى مائتي ألف دينار طبقا للمادتين 34 و9 من القانون 06-01 المذكور أعلاه،

– التنافي له تدابير وترتيبات برلمانية محضة أي ليس جرما في حد ذاته ولا تترتب عنه أي عقوبة جسدية أو مالية إلا عند الإدلاء بتصريحات غير صحيحة أو ناقصة لإخفاء حالاته، فآنذاك تُطبَّق عليه عقوبات التصريح الكاذب المنصوص عليها في التشريع الساري المفعول.

وهنك أيضا مصطلحات أخرى قريبة من التنافي وتعارض المصالح يحكمها هي الأخرى الدستور خاصة في مواده 123، 126، 127 و130… ومنها عدم القابلية للانتخاب وإسقاط العهدة البرلمانية أو التجريد منها، رفع الحصانة البرلمانية… إلخ. وإلى جانب الدستور يؤطرها كذلك الأمرُ رقم 21-01 المتضمِّن القانون العضوي الخاص بنظام الانتخابات المعدل والمتمم بالنسبة لعدم القابلية للانتخاب.

 

الأسباب والخلفيات

المؤكد أن هناك العديد من الأسباب والخلفيات بل والإشكالات الميدانية التي دفعت المؤسس الدستوري وبعده المشرِّع إلى تناول هذا الموضوع “نظام التنافي في المنظومة القانونية الوطنية” محاولا علاجه انطلاقا من الأحكام الدستورية واعتبارا للإرادة السياسية الفولاذية لرئيس الجمهورية الرامية إلى المُضيّ قدما من أجل إضفاء الشفافية في تسيير الشؤون العمومية وترقية الممارسة الديمقراطية وأخْلَقة الحياة السياسية والعامة في البلاد، مع التأكيد على الدور الحيوي الذي تضطلع به المجالس المنتخبة لاسيما في مجال تحقيق أهداف التنمية الوطنية بشكل عامّ والمحلية بشكل خاص. لهذا وغيره لا غرابة أن يضع المؤسِّس الدستوري، وبعده المشرِّع، الأطر النظرية والمبادئ العامة الملائمة لممارسة العهدة التمثيلية في المجالس المنتخَبة حسب خصوصيات كل واحدة حرصا منهما على ضمان استمرارية المؤسسات واستقلالية المنتخَب وحمايته من كل أشكال التبعية ومختلف المناورات والضغوط عند أدائه لمهامه وتفرُّغه للمسؤوليات الملقاة على كاهله. “ذلك أن جل الممارسات في مختلف الأنظمة القانونية تتوخى دائما ضمان أداء راق لممثلي الشعب في المجالس المنتخَبة من خلال تحديد الضوابط والقواعد التي تمنع الأوضاع المؤدية إلى أي تنازع أو تعارض في المصالح ضمن مبادئ الاستقلالية والنزاهة والاستقامة والالتزام والشفافية وترسيخ ثقافة الدولة وخدمة الصالح العامّ”.

تحديد وضبط حالات التنافي:

باستعراض أحكام المادة 3 من القانون 12-02 المذكور آنفا نجدها تقضي بأن “تتنافى العهدة البرلمانية مع: 1- وظيفة عضو في الحكومة، 2- العضوية في “المجلس الدستوري”، 3- عهدة انتخابية أخرى في مجلس شعبي منتخَب، 4- وظيفة أو منصب في الهيئات والإدارات العمومية، والجماعات الإقليمية والمؤسسات العمومية أو العضوية في أجهزتها وهياكلها الاجتماعية، 5- وظيفة أو منصب في مؤسسة أو شركة أو تجمُّع تجاري أو مالي أو صناعي أو حرفي أو فلاحي، 6- ممارسة نشاط تجاري، 7- مهنة حرة شخصيا أو باسمه، 8- مهنة القضاء، 9-وظيفة أو منصب لدى دولة أجنبية، أو منظمة دولية حكومية أو غير حكومية، 10- رئاسة الأندية الرياضية الاحترافية والاتحادات المهنية”.

هنا ينبغي أن نشير إلى أن بعض الوسائط الإعلامية قد تناولت، عبر منصاتها المختلفة، احتجاجات بعض البرلمانيين على قراءة مكتب مجلسهم للمادة 3 هذه مقدِّمين قراءات وتبريرات يعتقدون بأنها هي “القانونية” و”السليمة”، ومنها:

أ- أن أحكام النظام الداخلي لكل من المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة لم تتناول إطلاقا هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، وهذا قد لا يتطابق مع ما تقضي به أحكام الدستور السالف ذكره.

ب- أن حالات التنافي مع العهدة البرلمانية مضبوطة ومحددة قانونا في عشر حالات فقط فلا يمكن إذن، وبأي حال من الأحوال، التوسع فيها أو الاجتهاد خارجها طبقا للقاعدة الفقهية التي تقول: “لا اجتهاد مع وجود النص ووضوحه”.

وللفصل في هذه المسألة هناك فرضيتان:

أ- الفرضية الأولى أساسها أن يضع هؤلاء البرلمانيون أو غيرُهم ممن يخصُّهم موضوع التنافي، لأحكام المادة 3 هذه وحدها قراءة سريعة، ضيِّقة، سطحية ومتجزئة دون الأخذ بعين الاعتبار الأحكام الدستورية والقانونية الأخرى المتعلقة بالتنافي الخاص بالعهدة البرلمانية، وبالتالي قد تعدّ قراءاتهم واحتجاجاتهم وتبريراتهم المذكورة آنفا “مؤسسة قانونا”، وقد تكون النتيجة في النهاية ايجابية لصالحهم. وقد تسعفهم في ذلك النظرة الخاطفة ولأول وهلة للمادة 3 هذه حيث أنها ضبطت، بالفعل، الحالات التي تتنافى فيها عضوية البرلمان مع وظائف وعهدات ومهام أخرى محددة، على سبيل التعداد والحصر لا على سبيل المثال والذكر، في عشر حالات فقط. لكن الحقيقة مغايرة لذلك على الشكل الذي سيتم توضيحه في الفرضية الثانية أدناه.

باستثناء هذه المادة، التي اكتفت بالتنصيص على التنافي الخاص بالعهدة البرلمانية، فإن القوانين الأخرى لم تتصدّ لتعريف التنافي إلا بشكل مقتضب وعلى استحياء كبير، إذ تناولت بعضَ المهن التمثيلية والوظائف العمومية في مستويات معينة دون أخرى، وهو ما دفع بعض رجال القانون المختصين إلى نعته بـ”التعريف الناقص الغامض القاصر المبهم” الذي من شأنه أن يبعث على التفسيرات الضيقة الخاطئة بل والتأويلات المغرضة.

ب- الفرضية الثانية عمادها أن يخصص هؤلاء البرلمانيون أو غيرهم ممن يخصهم موضوع التنافي، للمادة الثالثة هذه والمادتان 2 و4 من القانون 12-02 المذكور آنفا، والمواد 4، 5، 6، 7، 8، 9 وغيرها من القانون رقم 01-01، المعدل المذكور أعلاه، وقبلها المواد 24، 125، 118، 123، 126 وغيرها من الدستور السالف ذكره، ومواد أخرى في قوانين أخرى ذات الصلة، قراءة تأمُّلية، واسعة، عميقة ومجمعة آخذين بعين الاعتبار كل الأحكام الدستورية والقانونية المتعلقة بالتنافي الخاص بالعهدة البرلمانية، وبالتالي ستعدّ احتجاجاتهم وتبريراتهم المذكورة آنفا “غير مؤسسة قانونا وغير سليمة”، وقد تكون النتيجة في الأخير سلبية للغاية في حقهم.

المؤسّس الدستوري بإقراره وفقا للمادة 105 من الدستور تحديد حالات التنافي مع العهدة البرلمانية، يستهدف تجنُّب عضو البرلمان الجمع بين وضعين قانونيين قد يُلحق ضررا بمهمته البرلمانية ويُنشئ تعارضا بين مهمته ومصالحه. كما أن نيته من وراء ذلك تمكين البرلماني من التفرُّغ كليا لعهدته، وبالتالي يبقى البرلمان وفيا لثقة الشعب ويظل متحسسا لتطلعاته، وفقا للمادة 105 من الدستور.

ولينظر هؤلاء وهؤلاء أي قراءة يرتضون أو أي قراءة أسلم وأصح، إن من الناحية الدستورية أو القانونية. وفي جميع الحالات، وأيا كان الأمر، فإن القراءة أو القراءات اللازمة للأحكام الدستورية والقانونية المتعلقة بموضوع حساس جدا كهذا “التنافي الخاص بالعهدة البرلمانية” يجب أن تكون حيادية، موضوعية، واسعة، عميقة، متأنية، مجمعة واستشرافية.

ومع افتراض حسن النية في هؤلاء وهؤلاء، فإن النتيجة قد تختلف في حقهم، إذ ليس بالضرورة أن تكون سلبية في الفرضية الأولى ولا أن تكون ايجابية في الفرضية الثانية والعكس صحيح… فإذا كان بالإمكان القول، من جهة، إنه قد يكون من حق بعض هؤلاء البرلمانيين أو غيرهم ممن يخصّهم موضوع التنافي تقديم ما يرونه ملائما من احتجاجات وتبريرات “دستورية أو غير دستورية، قانونية أو غير قانونية” سواء على النحو المذكور آنفا أو ما شابهه أو حتى ما يخالفه. فإنه، من جهة أخرى، ومن باب الحياد والموضوعية التمسُّك بالأحكام الدستورية والقانونية حتى وإن سادها قصور أو غموض أو نقص أو اختلال أو نحوه كما يعتقد بعض المختصين.

.. يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!