-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التنمية البشرية..  العلم الغائب في برامج العلوم الإنسانية والاجتماعية

التنمية البشرية..  العلم الغائب في برامج العلوم الإنسانية والاجتماعية

يعدُّ علم التنمية البشرية من أمتع العلوم وأعقدها وأكثرها تشعبا لأن له ارتباطا بجملة من الملكات “فوق العادة” والمعارف النفسية والاجتماعية وغيرها التي يجب أن تتحقق فيمن يتصدى لهذا العلم. وقد استطاع قلة من المشتغلين بهذا العلم تحقيق هذه الشروط فتحولوا إلى مراجع لا غنى عنها في مجال التنمية البشرية كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم الفقي رحمه الله الذي كان ركيزة من ركائز هذا العلم، فالجماهير العربية وغير العربية، النخبوية والشعبية على سواء، كانت تتابع حلقات الفقي حول التنمية البشرية بشغف، فقد استطاع الرجل أن يرسم خريطة النجاح لكثير من المتعثرين على درب الحياة وأن يعيد تفعيل الطاقة الإيجابية في نفوسهم وطرد السلبية والانهزامية التي كانت تسيطر عليهم وتحول بينهم وبين الاستماع بالحياة.

من أمارات التميز في مؤلفات وكتابات الفقي أنه أوتي قدرة عجيبة على الربط الذهني بين العناصر الثلاثة التي لا تتحقق صناعة المستقبل إلا بها وهي: قوة التفكير وقدرة التحكّم في الذات وقوة إدارة الوقت. إن كثيرا من الفاشلين في امتحان الحياة قد أخلّوا بهذه العناصر أو ببعضها فوجدوا أنفسهم تحت رحمة الذات المتحكّمة والفوضى الخلاقة التي لا ضابط لها.

لقد قرأتُ عددا معتبرا من كتب إبراهيم الفقي رحمه الله ومنها على سبيل المثال كتابه “المفاتيح العشرة للنجاح”، وقد أدهشني سعةُ اطلاع الفقي على دقائق علم النفس الخاص الذي يستقرأ الصورة الباطنية للنفس البشرية التي لا تستوعبها في العادة الصورة الظاهرية الصورية التي ترتبط في الغالب بالخمول والخلود إلى الراحة القاتلة التي تقضي على كل طاقة إيجابية.

لقد أبدع الفقي في إيقاظ مظاهر القوة ومكامن القدرة في النفس البشرية وهي عناصر ضرورية لصناعة المستقبل، كما أبدع في توصيف كثير من الحالات النفسية المستعصية التي فقد أصحابُها الثقة في إعادة التكيف وإعادة الاندماج داخل النسيج الاجتماعي، وقد فصّل ذلك في كتابه “أيقظ قدراتِك واصنع مستقبلَك” وكتابه “سيطر على حياتك”. ومن أمارات التميز في مؤلفات وكتابات الفقي أنه أوتي قدرة عجيبة على الربط الذهني بين العناصر الثلاثة التي لا تتحقق صناعة المستقبل إلا بها وهي: قوة التفكير وقدرة التحكّم في الذات وقوة إدارة الوقت. إن كثيرا من الفاشلين في امتحان الحياة قد أخلّوا بهذه العناصر أو ببعضها فوجدوا أنفسهم تحت رحمة الذات المتحكّمة والفوضى الخلاقة التي لا ضابط لها.

إن علم التنمية البشرية ليس علما مشاعا، يخوض فيه كل من هب ودب، عن علم وعن غير علم، فالسقف العالي لمعايير الاشتغال بهذا العلم تجعل رواده قليلين إلا إذا أصرّ بعضهم ممن أبطأت بهم ملكاتهم على تجاهل هذه المعايير فأقحموا أنفسهم في علم لا يعلمون حقائقه ودقائقه فيخبطون فيه خبط عشواء على غير هدى أو بصيرة، وهو حال كثير من المتطفلين على هذا العلم، شأنهم في ذلك شأن كثير من الرقاة المزيفين الذين اقتحموا ميدان الرقية الشرعية وهم غير مؤهّلين لذلك، فتكونت لديهم ازدواجية في الشخصية، شخصية الراقي المتورِّع والمشعوذ المبتدِع، وخلطوا في رقاهم بين هدي موسى النبي وهذي السامري. لقد وضع النقاد شروطا عالية لمن يريد الاشتغال بعلم التنمية البشرية لا أرى أدناها متحققا في كثير من الأدعياء الذين ضحكوا على ذقون متابعيهم حتى آمنوا بهم وصدّقوا بأن ما يقولونه ضربٌ من فصوص الحكم التي لا غنى عن طلبها.

من المعايير التي وضعها النقاد لمن يروم الاشتغال بعلم التنمية البشرية امتلاك المهارات والقدرة على تحليل الأمور، وهذا أمرٌ لا يتحقق إلا لفئة مخصوصة، فكيف يدّعيه من ليس بينه وبينه سبب ولا يتصل به بسبب؟ إن ملكة التحليل تقتضي عقلا قادرا على تفكيك بعض الشفرات النفسية من خلال مراقبة السلوك العامّ للشخص ثم توصيف حالته توصيفا يكون أقرب إلى الحقيقة وأدلّ على الحالة النفسية التي يعيشها، وهذا أمرٌ لا يرقى إليه إلا من هو أهله.

ومن المعايير التي وضعها النقاد أيضا ملكة الابتكار والدقة والفطنة وسرعة البديهة، ولا أحسب هذه المعايير متحققة في كثير من الأدعياء الذين يدّعون وصلا بالتنمية البشرية ويكثرون من الثرثرة التي يوارون بها جهلهم بقواعد هذا العلم. ومن المعايير أيضا المعرفة اللازمة بعلم النفس وعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وهي معايير لا ترتقي إليها كثير من العملات الرديئة المتداولة في ميدان التنمية البشرية

ويضاف غلى ما سبق امتلاكُ المهارات القيادية والفصاحة والبلاغة والقدرة على الخطابة، فكيف يتصدى لذلك من لا يمتلك مهارة قيادية ولا فصاحة ولا بلاغة ولا قدرة على الخطابة فإذا تكلم اكتشف سامعوه من أول وهلة بأنه شخصية مهزوزة ليست أهلا للقيادة بل إنها ليس أهلا لأن تقاد لأنها شخصية مزاجية مضطربة تحتكم إلى الغرائز ولا تحتكم إلى السنن، وإذا نبس ببنت شفتيه أجرم في حق لغة الضاد وذبحها من الوريد إلى الوريد، فظٌّ لا يستقيم له سلوكٌ ولا يستقيم له منطق. ومن المعايير كذلك حب الاستطلاع وحب القراءة، وهذا لعمري أمرٌ متعذر لا يرقى إليه كثيرٌ من الأدعياء الذين ولجوا ميدان التنمية البشرية من غير أهلية مستحقة أو ثقافة مؤهلة.

تعرَّفتُ في مشواري الجامعي إلى كثير من المشتغلين بعلم التنمية البشرية، وكان أكثرهم ممن درسوا بجامعات ماليزيا وباكستان، وقد حدَّثني أحدهم أن شهادة التنمية البشرية يمتلكها عددٌ معتبر من خريجي هذه الجامعات، ولم أشأ أن أسأل محدِّثي عن سر هذا العدد المعتبر من الحاصلين على شهادة في علم التنمية البشرية في هذه الجامعات وطفقتُ أتقصَّى الحقيقة بنفسي حتى أدركتها وهي أن هذا العلم قد دخل برامج التكوين في الجامعات الماليزية والباكستانية في وقت مبكر وهو ما جعلها تنافس الجامعات الأمريكية والبريطانية والأسترالية. إن التكوين في علم التنمية البشرية أمرٌ تتطلبه تعقيدات الحياة العصرية وحالات الضغط النفسي والاجتماعي التي يعيشها إنسان ما بعد الحضارة.

هناك حاجة ملحّة لإدراج علم التنمية البشرية في برامج العلوم الاجتماعية والإنسانية وفي برامج الدعوة الإسلامية، لأن الداعية تُعرض له في تجربته الدعوية كثيرٌ من الحالات المرضية التي تحتِّم عليه التعامل معها بمنطق نفسي وفلسفي واجتماعي هادئ ورصين، وهذا أمرٌ لا يرتقي إليه من أبدع في علم التنمية البشرية على الورق وعجز عن ذلك في الواقع عجزا مدوِّيا لا يملك إنكارُه بأي حال من الأحوال.

ونظرا لأهمية علم التنمية البشرية في مجال الدعوة الإسلامية فقد اهتم به كثيرٌ من الدعاة، وقد شكلت أقوال إبراهيم الفقي مصدرا أساسيا لهم كما فعل محمد راتب النابلسي الذي اقتبس من أقوال الفقي وأقوال خبراء التنمية البشرية ما كان سببا في نجاح مسيرته الدعوية.

إن الاهتمام بعلم التنمية البشرية كفيلٌ بعلاج كثير من حالات الانهيار العصبي والشرود الذهني التي يعاني منها الأفراد والتي تؤدي بالضرورة إلى تراجع معدلات الإدراك الفردي والوعي الاجتماعي، وتُفضي بدورها إلى حدوث حالة الضياع المجتمعي العامّ، ولهذا السبب أرى أنه على الجامعات الجزائرية أن تجعل علم التنمية البشرية جزءا من برامجها في تخصصات علم النفس الاجتماعي والدعوة والاتصال والأخلاق السياسية، وأن أي إصرار على إقصاء هذا العلم سيزيد من تعقد الحالة الاجتماعية وتكوين إنسان منفصم الشخصية، عديم الفعالية ربما من شاكلة “إنسان النصف” الذي تحدَّث عنه المفكر مالك بن نبي رحمه الله.

ذكرت ” كاندرا شيري” الباحثة في التنمية البشرية خمسة أسباب تجعل من هذا العلم علما ضروريا لفهم طبيعة النفس وطبيعة الحياة: أوَّلها أنه يُعين على فهم الذات، وفهمُ الذات طريق لفهم الحياة، وثانيها أنه يعين على تربية الأطفال وهي مشكلة تواجهها كثير من الأسر، وثالثها أنه يعين على فهم أكبر لكيفية التعامل مع الأطفال، ورابعها أنه يعين على زيادة الوعي بطبيعة التغيرات التي تحدث في عالم الإنسان وعالم الأشياء، وخامسها أنه يمدُّ الإنسان بالخبرة الكافية لتمييز الوضع الطبيعي من غيره. وأحيل -من أراد التوسُّع في هذا الموضوع إلى كتاب “كاندرا شيري” The Everything Psychology book فقد تضمَّن تفاصيل كثيرة لا يتسع لها هذا المقال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!