-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“الجزائر تعادل إسبانيا”!!

“الجزائر تعادل إسبانيا”!!

كان الاتحاد العالمي للرياضيات قد قرر عام 1993 أن تكون سنة 2000 السنة العالمية للرياضيات، ودعمت هذا القرار كل الهيئات الدولية وعلى رأسها اليونسكو. وطلب الاتحاد من كل الدول آنذاك أن تقيم تظاهرات علمية خلال تلك السنة. وانطلاقا من هذا النداء بادر بعض الزملاء من المدرسة العليا للأستاذة-القبة وجامعة باب الزوار بالتعاون لإقامة تظاهرة سميت “لقاء الرياضياتيين الجزائريين”. وكان الهدف من المؤتمر تجميع أكبر عدد ممكن من المختصين والباحثين الجزائريين في الرياضيات بمختلف فروعها في الداخل والخارج.

رأي الأستاذ ليونس

وقد تم تنظيم اللقاء عام 2000 بنجاح منقطع النظير لم تعرف الجزائر مثله لا قبل ولا بعد ذلك التاريخ. وما ميّزه أنه جمع أزيد من 300 رياضياتي جزائري، كثير منهم أتى من الخارج، وألقيت أثناءه حوالي 30 محاضرة عامة ونحو 290 مداخلة قصيرة. فكانت التظاهرة حقا “عرسا رياضيا” وطنيا تبنى الحاضرون فيه فكرة إنشاء معهد  بحث وطني للرياضيات لا زال يراوح مكانه إلى اليوم !

وفي هذا السياق، ولإعطاء بعد دولي للتظاهرة، قرّر المنظمون استضافة الأستاذ جاك لويس ليونس Lions (1927-2001) الذي يعدّ أب الرياضيات التطبيقية الحديثة في فرنسا. ومعلوم أن سمعته العلمية قل نظيرها على المستوى العالمي. وقد تقلد عديد المناصب، منها رئاسة أكاديمية العلوم الفرنسية، والاستشارة لدى رئاسة الجمهورية في بلاده ولدى كبريات الشركات. كما كان له اطلاع واسع عما يجري في مجال الرياضيات عبر العالم إذ ترأس أيضا قبل ذلك التاريخ الاتحاد العالمي للرياضيات.

تكفل زميلان بزيارة الأستاذ ليونس في مكتبه بباريس آنذاك لتوجيه له الدعوة، ودار حديث مطول بينهم. ومن بين ما ذكره الأستاذ ليونس لزائريه الجزائريين أنه يعتبر أن »مستوى الجزائر في الرياضيات يعادل مستوى إسبانيا». ورغب ليونس في تلبية الدعوة لكن وضعه الصحي حال دون ذلك، وقد توفي بعد ذلك اللقاء بسنة.

 ما حدث في إسبانيا… وفي الجزائر

ماذا حدث من عام 2000 في إسبانيا إلى اليوم؟ عرف هذا البلد تطورا سريعا في مجال البحث في الرياضيات وفي غيرها من العلوم حتى أن الاتحاد العالمي للرياضيات عقد في مدريد عام 2006 مؤتمره الدولي الذي يقام مرة كل 4 سنوات، وحضره آلاف الرياضياتيين من القارات الخمس. ومن المعلوم أن احتضان مثل هذا المؤتمر بالذات من طرف دولة من الدول هو في حد ذاته بمثابة شهادة عالمية تؤكد أن البحث في الرياضيات يتقدم بقوة في تلك الدولة

وما يؤكد رقي البحث العلمي في إسبانيا منذ ذلك التاريخ ما أسفر عنه تصنيف جامعات العالم عام 2017 حيث تفاجأنا بوجود نحو 20 جامعة إسبانية من بين الجامعات الـ 500 الأولى الأفضل في العالم… ولا ذكر لأي جامعة جزائرية.

وماذا حدث في الجزائر من عام 2000 إلى اليوم؟ حدث أنه تقرر إصلاح المنظومة التربوية بعد صدور تقرير لجنة الإصلاح الوطنية في مطلع القرن. هل هناك من لزوم لتوضيح ما آلت إليه أوضاع المنظومة التربوية من جراء ذلك الإصلاح؟ يكفي أن نشير إلى أن الإصلاح المزعوم بدأه صاحبه بطريقة عرجاء تمثلت في الإصلاح المتوازي للأطوار التعليمية الثلاثة (الابتدائي والمتوسط والثانوي) ليستعجل بإنهاء العملية في موعد يتزامن مع موعد انتخابي حاسم. فصار ما صار مما سمعنا ونشاهد!!

ونظرا للعاهات المسجلة اقتنع الخلف الذي يسوس وزارة التربية الآن بأنه لا بد من إصلاح الإصلاح فسمي بـ”الجيل الثاني”. ما يميّز هذا “الجيل” أيضا (بغض النظر عن المضامين) أن العملية طالت في آن واحد المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. وقد صُممت كسابقتها للانتهاء منها في الموعد الانتخابي القادم (2019)!

 بمعنى أن ما كان يطغى على عملية الإصلاح في الجيلين هو الجانب السياسي وليس التربوي. فكيف يريد المسؤول كسب ثقة المواطن في حين أن الطابع السياسي للإصلاح هو الغالب؟ القاعدة المنطقية في الإصلاح الجاد أن يتولاه مجلس للتربية غير مرتبط بوزير أو بحكومة أو بمواعيد انتخابية، يبدأ من السنة 1 ابتدائي ثم السنة 2 ابتدائي، وهكذا دواليك حتى يصل إلى سنة البكالوريا، وهذا بعد إعداد خطة محكمة قبل لحظة الانطلاق.

 وخلال هذا التدرج يقوم الخبراء في كل سنة وفي كل مرحلة وطور بتقييم إصلاح السنوات الماضية لتصويب المسار خلال المسيرة كمن يقود سيارة بحذر أو طائرة من لحظة الإقلاع حتى لحظة التوقف التام. وبذلك يجد التلميذ نفسه -في أي سنة كانت- في انسجام مع البرامج والمناهج والطرائق المعتمدة. للأسف لم يكن هذا هو النهج الذي سارت عليه إصلاحات هذه الألفية خلافا لما كان عليه الحال في أواخر القرن الماضي عندما تعلق الأمر بما سمي بـ”المدرسة الأساسية”.

التعليم العالي غير معني !!

إذا عدنا للرياضيات نلاحظ أن الوزير بوبكر بن بوزيد كان قد فتح في عهده ثانوية سماها “ثانوية الرياضيات”… وحسنا ما فعل. لكن وزارة التعليم العالي لم تر نفسها معنية بالموضوع : لا يعنيها أن تكوّن هذه الثانوية نخبة شأنها شأن مدارس أشبال الأمة ولا ترى أن من واجبها إحداث نظام ومؤسسة تواصل مسيرة هذه النخبة كما تفعل كثير من البلدان. وقد بذل زملاء ممن كانوا من وراء انعقاد لقاء 2000 السابق الذكر جهودا مضنية لدى وزارة التعليم العالي على مر السنين، وقدموا لها حلولا جاهزة ليست فيها أية تكاليف مادية، لكن لا حياة لمن تنادي. وهذا ما أدى بمعظم المتخرجين من هذه الثانوية إلى التوجه نحو اختصاصات أخرى غير العلوم الأساسية!!

وما يدل أيضا على الإهمال القاتل لوزارة التعليم العالي للتكوين النوعي سياستها الحالية تجاه المدارس العليا للأساتذة. ففي الوقت الذي سمحت لها خلال السنين الماضية بفتح تكوين الماجستير والدكتوراه، وكذا عشرات مخابر البحث في المواد الأساسية التي أشرفت على مئات الخريجين من حملة الماجستير والدكتوراه في السنوات الماضية (مدرسة القبة وحدها تخرج منها بهاتين الشهادتين قرابة 500 طالب) أغلقت في وجهها باب فتح الماستر. ومن ثم تأثر التكوين على مستوى الليسانس سلبا إذ ذهبت محفزات التنافس بين الطلبة أدراج الرياح بسبب غلق أبواب مواصلة الدراسة لنجباء الطلبة. وفضلا عن ذلك تأثر أداء مخابر البحث لعدم توافد الطلبة عليها رغم إمكانياتها المادية والبشرية !! ألا تندرج هذه الإجراءات بشكل صارخ في سياسة كسر مسيرة المدارس العليا للأساتذة؟ لصالح من يا ترى؟ لا ندري.

في آخر المطاف، يوضح تعامل وزارتي التعليم مع الشأن التربوي والعلمي لماذا لن يدلي الأستاذ ليونس –لو قدر له القيام من قبره اليوم-  بمثل ما صرح به عام 2000 في قوله بتعادل الجزائر وإسبانيا. لماذا؟ من تسبب في هذا التدهور؟ هل هناك وعي رسمي بالمأساة؟ هل ينوي أصحاب القرار تحريك ساكن؟ ما الحل لنعود ونصبح مجددا في مستوى إسبانيا في مجال الرياضيات، ولِمَ لا في بقية الحقول العلمية؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
15
  • ********

    الجزائر بامكانياتها يمكن ان تصبح مثل امريكا لكن بشرط ان نكون كالاسبان والامريكان

  • عبد اللطيف

    بالفعل فبعد 2003 لاحظنا تراجع رهيب في المستوى في الرياضيات وفي بقية المواد
    وذلك في كل المراحل والمستويات ولم يكن هناك تناسق مابين قطاع التربية وقطاع التعليم العالي في البرامج , كان من المفروض أن يكون مخطط مدروس ومحكم للإصلاح
    مع المتابعة والتقييم ثم التقويم طبعا لأهل الاختصاص .

  • سفير الأدب

    ( على نفسها جنت براقش ) ، انهيار المنظومة الأخلاقية ليست مسؤولية شخص واحد ، إذا كان الجميع محتالا وغشاشا ، فما ذنب سواهم ؟؟ ، وأما الشعر والأدب لاينزلان إلى مرتبة الغناء والطرب والركح ، وهل تعلم لماذا يسخر المصريون كثيرا من الجزائر ؟؟؟!!!!

  • observateur

    آه...تذكرت السنوات العجاف والوزير الغبي الذي في عهدته فتك بنا الغش وكان النجاح للجميع...حتى الشعر والغناء والطرب والركح كرمه وجعل له وسام...سبحان الله...

  • مجيد

    على المجتمع التعليمي و العلمي و الثقافي ان يبادر للخروج من الازمة الاخلاقية و السياسة و الاقتصادية فالطبقة السياسية الحالية "حكم او معارضة" لا تفكر الا في تركيع الشعب من خلال المبادرات الترقيقية الوهمية و همها الوحيد هو الغاز و البترول

  • سفير الأدب

    جزى الله الوزير أبابكر بن بوزيد كلّ خير ، وحفظه وأكرمه وأناله مايرضى في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى ، في عهده كرّمت بوسام الاستحقاق لحصولي على المرتبة الأولى وطنيا في أولمبياد الأدب العربي ، وعشت أزهى أيام عمري الدراسية ، من نجاح إلى آخر ولله الفضل والمنة ، وأما اليوم فقد صار الكلّ يترحم على أيام التربية في عهده بعد أن كان محل انتقاد من قبلهم ، فأضحى حالهم كما يقول الشاعر :
    عَتَبْت عَلَى عَمْرٍ فَلَمَّا فَقَدْتُهُ ***** وجَرَّبْتُ أَقْوَامًا بَكَيْتُ عَلَى عَمْرِ

  • عبدالله

    الرياضيات عندنا مجردة واصحابها بعيدين جدا عن التكنولوجيا ويوجد من لا يعرف حتى ابجديات التكنولوجيات..كنا متفوقين فيها لكن عدلنا المسار لان الرياضيات ليست غاية وانما وسيلة وهي عبارة عن عموميات لو يطلعون على ما ابدع العلماء والمخترعون و المختصون من قوانين رياضية كل في مجاله لعلموا ان محتويات الرياضيات التي عندهم هي كلاسيكية جدا .

  • ابراهيم

    البكي والشكي هذه حرفة المعربين. المدرسة خربت عندما عربت والأن تتهمون المفرنسون، خافوا ربي ياناس.

  • فريد

    يزداد الوضع في منظومتنا سوءا يوما بعد يوم،أليس ظلما في حق طلبة المدارس العليا للأساتذة أن يحرموا من مزاولة دراساتهم العليا و هم الذين كانوا أولى أكثر من غيرهم بها،نظن أن قوى طلبتها قد خارت من جراء مطالبتهم بحقوقهم المهضومة فلم يعد إلى ذلك من سبيل سوى أن يصعد أساتذتها بطرق سليمة و بطرق أنجع من سابقتها،أظن أن وزارة على رأسها شخص لم يتجرع من العلم يوما لا يصلح معها فتح نافذة للحوار أو ماشابه ذلك،قد طفح الكيل و باتت الوزارة ملكية خاصة على حسب القرارات غير المدروسة التي نراها كل يوم تصدر من دون شورى

  • محمد

    الرياضيين يشكلون نواة بناء العلم المستقبلي للدول المتطورة في تواصل اكتشاف المعادلات السريعة الحلول القريبة الدقة الاكثر فاعلية و الاكيد هي تعلم درجة اهمية هدا العلم و علمائه .. و لا يمكن للعالم ان يعمل بدون مخابر و مراكز بحث .. و لدى فعلينا ان نعمل جميعنا للمطالبة باخر العلوم المفقودة في بلدنا .. لانطلاقة جديدة في العلوم المتطورة ليس للتنافس مع اسبانيا بل لخدمة البشرية

  • Mohamed

    اولا نود ان نشكر استاذنا الفاضل على هذه المعلومات القيمة
    والله من المؤسف عندما يتم غلق ابواب الماستر والدكتوراه في وجه الطلبة النجباء للمدرسة العليا للاساتذة بالقبة لانه من المعروف انه من يقصد هذه المدرسة ليس اي كان عكس ماهو في بقية الجامعات التي يسمح فيها تقريبا لجميع الطلبة المشاركة في الماستر والدكتوراه
    اعتقد قد يكون هذا احد الاسباب التي جعلت جامعاتنا في ذيل التصنيفات

  • جزائري

    الحكم بالتعادل في سنة 2000 بين الجزائر وإسبانيا "رياضياتيا" والذي صدر عن أحد أكبر المختصين J-L-Lions سبقه تعادل آخر إقتصادي في سنة 1975 حسب خبراء إقتصاديين مرموقين. التفسير الوحيد (والذي أشار إليه الأستاذ) لِتطوُّر إسبانيا وتدهور الجزائر سياسي محض! تخلصت إسبانيا من أمثال الجنرال Franco ولا زالت الجزائر في قبضة جنرالات "França"!
    حكام إسبانيا في خدمة شعبهم و"حكامنا" في خدمة من يحميهم ويضمن بقاءهم في السلطة. وقود هذه الآلة الجهنمية هو البترول الذي جعل هذه الدكتاتورية تستغني عن ذكاء الجزائريين..

  • وحيد

    الولاء قبل الكفاءة في الجزائر وهذا ما سيقضي على الجزائر عاجلا أم آجلا . في أكبر شركات الجزائر وأكثرها أهمية وحساسية لا حظ للكفاءة وكل الحظوظ للولاء وهذا ما فهمه المخربون في الجزاىر فاستنزفوها طولا وعرضا !

  • أيمن

    كان المعلم هو حكيم المجتمع يلجؤون اليه لاصلاح ذات البين ولاستشارته في قضايا الحي واحترام رأيه والأخذ بنصائحة فكان مرجعا في الأخلاق وسداد الرأي أما اليوم فصار المعلم مدعاة للصخرية وأصبح في قاع المجتمع وتدحرج في السلم الاجتماعي وفقد قدسيته ومكانته كفاعل أسياسي وقدوة في محيطه و اهتزت صورته بين المتعلمين لذلك تراجع المستوى التعليمي في الجزائر حتى صار المتعلم يحلم بكل الوظائف باستثاء وظيفة التعليم وهو ما يجب أن يستوقفنا من أجل اعادة هبة المدرسة الجزائرية

  • أيمن

    بارك الله فيك أخي على هذا التحليل الذي يزرع فينا الأمل ولكن أؤكد لك بأن الامكانيات متوفرة و المواهب موجودة غير أنه للأسف غياب الجدية لدى الفاعلين الأساسيين في المنظومة التربوية والتعليم العالي بداية بالوزارة الوصية والأساتذة والشركاء الاجتماعيين كلهم مسؤولون عن تردي هذا الوضع ولو أحدثنا مقارنة بسيطة بين المدرسة الجزائرية قبل الاصلاح و بعده لوجدنا الفارق شاسع في المستوى رغم فارق الامكانيات وهذا راجع بالأساس الى تخلي الجميع عن المبادئ وأصبحو يلهثون وراء المصالح والامتيازات بعيدا عن الرسالة النبيلة