الرأي

الجزائر… هل هي “قوّة صاعدة”؟

تشق الجزائر في الآونة الأخيرة طريقها بثبات وتقدم لافتيْن نحو ساحة القوى الإقليمية الفاعلة، وهي تصنع نجاحاتها المتوالية على كافة المستويات الاقتصادية والدبلوماسية، في ظلِّ رؤيةٍ قيادية واضحة الهدف وبارزة الإرادة، لإنجاز الفارق الإيجابي في التاريخ المعاصر للبلاد والمنطقة عمومًا.

لقد راكمت الجزائر في عام 2022 مكاسبَ سياسية وماليّة ومنجزاتٍ إستراتيجية تفتح أمامها آفاق التنمية والقوة القاريّة والعربيّة، في حال ما أدرك الجميع أهمية اللحظة التاريخية والتحولات الجيو – عالمية وتوفرت شروط النهوض الجزائري بتضافر كلّ سواعد القوى الحيّة.

وفي ظرفٍ قياسي، سجَّلت الجزائر حضورها الدبلوماسي الفعّال على عدة جبهات، من المصالحة الفلسطينية والدور النشيط في مالي وليبيا إلى القمة العربية بكواليسها ومجرياتها ومخرجاتها، مرورا بفرض التعاطي الندّي مع الشركاء الأوروبيين، وفي مقدِّمتهم فرنسا واسبانيا.

كما سمحت الظروف الدولية الأمنية بتبوّإ الجزائر مكانتَها المتقدمة بصفتها شريكا طاقويّا موثوقا ورئيسا للقارة العجوز، مدعومة بالجهود الاستكشافية والإنتاجية المتصاعدة لشركتنا النفطية “سوناطراك”، ما جعلها محجّ الزعماء الأوروبيين بحثًا عن تأمين مصادر الطاقة في بيئة تنافسيّة حادّة.

إن ارتفاع العوائد النفطية (50 مليار دولار بنهاية العام الجاري) في ظل تحسُّن مؤشرات السوق البترولية، وتوقعات باستمرارها على النحو الحالي لمدة 7 سنوات قادمة على الأقل، معزَّزة بتضاعف قيمة الصادرات خارج المحروقات، 7 مليارات دولار في 2022، والتي ستبلغ 15 مليار دولار في غضون العامين المقبلين، كل ذلك سيضع الخزينة العمومية في أريحية كاملة بالنسبة لاحتياطي العملة الصعبة، ما يمكّن الحكومة من تنفيذ المخطط الإنعاشي للاقتصاد وتجسيد الإصلاحات والاستثمارات الكبرى.

وفي غضون ذلك، تستقبل بلادُنا عهدها الجديد باحتياطي صرف مريح، 54.6 مليار دولار بنهاية عام 2022، مع فائض في الميزان التجاري بـ17 مليار دولار، وديون خارجية رمزية قياسًا بإجمالي الناتج المحلي، في وقت بدأت فيه اقتحام السوق الإفريقية الحرة، موازاة مع تحضيرها لمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي.

من جهة أخرى، فإنّ السلطات العمومية تُدرج اليوم تحسين ظروف الحياة الاجتماعية للمواطنين على صدارة أولوياتها، لتغطية اختلالات السوق الداخلي، بفعل ارتفاع الأسعار الناجمة عن التقلبات الدوليّة، من خلال تقرير زيادات جديدة في الأجور مطلع 2023، وهي ثالث زيادة في فترة وجيزة، مع إقرار منحة معتبرة للبطالين قابلة هي الأخرى للتثمين، ولذلك رصدت الدولة أكبر ميزانية في تاريخ الجزائر، إذ سيشهد غلاف التسيير لأول مرة ارتفاعًا بـ27 بالمائة.

من المؤكد أنّ التوسع في الإنفاق ليس هو الحلّ الجذري لمواجهة الغلاء، وهو ما تدركه الحكومة، بل هي بصدد تنفيذ الخطة الشمولية لبناء اقتصاد عصري ومتوازن، من خلال التركيز على تحفيز الزراعات الإستراتيجية للأمن الغذائي والسعي إلى بعث صناعة فعلية تحقق القيمة المضافة وفرْض الرقابة الصارمة على الاستيراد العشوائي المستنزِف للنقد الأجنبي.

وفي الوقوف عند مؤشرات التغيير الكبير في الجزائر، لا يمكن تجاوز حرب السلطتين التنفيذية والقضائية على الفساد المالي، باعتباره العامل الأول في تبديد المال العامّ خلال عهد العصابة البائدة، والمعطّل لانطلاق قطار التنمية على السِّكة الصحيحة، بينما تتأسّس حاليا معايير أخرى لإرساء دولة الحق والقانون، ما يعطي كافة الضمانات للمستثمرين في كنف الشفافية والتنافس المفتوح، خاصة عقب إقرار القانون الجديد للاستثمار.

تلك المزايا المحفزة على الشراكة الواعدة مع الجزائر هي التي أهّلتها للظفر بتوقيع خطة خماسية ثانية للتعاون الاستراتيجي مع العملاق الصاعد الصين الشعبية، بكل ما يحمله ذلك من آفاق اقتصادية وصناعية وعسكريّة في سياق التحديات الإقليمية بالمنطقة والتحولات العالميّة التي ستعيد صياغة التاريخ. وفي الوقت ذاته، ها هي بلادُنا تترشَّح للانضمام إلى القطب العالمي الاقتصادي “بريكس”، لتصبح عضوا في مجموعة الدول الصاعدة قريبا، على غرار الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، وقد حظيت حتى الآن بترحيب أكبر فاعليْن، هما بكين وموسكو.

إن كل المعطيات السالفة الذكر بأبعادها الداخلية والخارجية تؤكد عزم الجزائر على التحرّر من إرثها السلبي والانطلاق بسرعة نحو بناء عهد جديد مختلف، من حيث الرؤية والطموح والتسيير، بما يناسب تطلعات شعبها الحيوي وتاريخها الساطع وموقعها الجيوإستراتيجي وإمكاناتها الطبيعية والبشرية، وباقي مميزاتها في كثير من المجالات التنافسية، إذا ما أحسنت استغلالها الوطني بشكل عقلاني.

إنّ ما أوردناه أعلاه من قرائن على انتقال الجزائر فعليّا إلى ساحة التغيير بالأفعال لا الأقوال، لم يكن فقط في إطار حشد المعنويات لبعث التفاؤل بين الجزائريين، بل هي رسالة للتعبئة من أجل الالتفاف الوطني وتآزر كل الجهود المخلصة في تثمين المكتسبات والتناصح الصادق لاستدراك الأخطاء والنقائص، لأنّ دوائر التثبيط والتآمر تسعى جاهدة إلى حجب الحقائق الناصعة في ميدان المكاسب الإستراتيجية وتسويد الصفحات البيضاء بنقاط جزئية هنا وهناك، من خلال تقزيم الأعمال الكبيرة مقابل تضخيم الهفوات الصغيرة، خاصة في ظل التركيز على واقع الحياة اليومية للمواطن في سياق انتقالي يحتاج إلى تحمّل ضريبة الإصلاح مؤقتًا.

سيكون من المغالطات المفضوحة إغراق المشهد العامّ في تفاصيل معيشية يومية، هي نتاجٌ طبيعي وظرفي لملاحقة الفساد وتداعيات مطاردة العصابات واللوبيات وفرض منطق الشفافية في إدارة النشاط الاقتصادي والتجاري، دون فتْح وعي المواطنين على الآفاق الواعدة، في ظل التوجه الاستراتيجي للإصلاح العام للدولة.

مقالات ذات صلة