-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجوائز العلمية : انزلاقات خطيرة!  

الجوائز العلمية : انزلاقات خطيرة!  

سنتحدث عن “جائزة نوبل” في الرياضيات التي تسمى “ميدالية فيلدز Fields” وجوائز عالمية مماثلة. ينعقد المؤتمر الدولي للرياضيات مرة كل 4 سنوات، وتُمنح خلاله ميدالية فيلدز. كانت هذه الجائزة قد مُنحت عام 2018 في البرازيل، وتقرر آنذاك أن تُمنح للفائزين الجدد في مطلع جويلية الجاري في مدينة سنت بطرسبورغ الروسية خلال انعقاد المؤتمر الدولي للرياضيات كما جرت العادة. ومعلوم أن الصراع كان شديدا بين الفرنسيين والروس لأن كلا منهما كان يريد احتضان مؤتمر جويلية 2022… وفازت في الأخير روسيا بهذا الاستحقاق.  

 الأوكرانيات في الطليعة! 

لكن اندلاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا في فيفري الماضي كان كافيا كمبرر لسحب البساط من تحت أقدام الرياضياتيين الروس إذ قرر الاتحاد الدولي للرياضيات مقاطعة روسيا وتنظيم المؤتمر عن بعد مع تسيير أعماله من خارج روسيا! أما الجمعية العامة -التي من العادة أن تجتمع في بداية المؤتمر- فانعقدت في نهاية الأسبوع الماضي حضوريا في مدينة هلسنكي الفنلندية التي تقع على بعد 400 كلم من مدينة سنت بطرسبورغ.  

وهكذا مُنحت ميدالية فيلدز لأربعة رياضياتيين لم تتجاوز أعمارهم 40 سنة (كما تقضي قواعد الجائزة). وهؤلاء الأربعة، أحدهم أمريكي كوري جنوبي يعمل في الولايات المتحدة، والثاني بريطاني يعمل في إنكلترا، والثالث فرنسي يعمل في سويسرا وينتسب إلى معهد بحث في باريس، والرابع باحثة أوكرانية تعمل أيضا في سويسرا ودرست في ألمانيا. ونقرأ بهذه المناسبة في وسائل الإعلام تباهيا وتفاخرا بالأبطال في كل بلد من هذه البلدان، عدا سويسرا على الرغم من أنها “البطلة الأولى” في هذا الموضوع إذ استطاعت استقطاب اثنين من هؤلاء الأبطال الأربعة!  

وبهذا الخصوص، صدر في صحيفة فرنسية استجواب لأحد العلماء الفرنسيين يدين سياسة البحث والتعليم في بلاده، مؤكدا في حال ما واصلت فرنسا سلوك هذا المسلك أن “بعد 10 سنوات لن يستطيع الباحثون الفرنسيون الفوز بأي جائزة من هذا القبيل لأن فرنسا لا تجلب عمالقة العلم”، مشيرا مثلا إلى أن الراتب الصافي لأعلى رتبة أستاذية في فرنسا هو 5 آلاف أورو بينما يصل في سويسرا إلى 13 ألف أورو. ويعتبر العنصر المادي أحد أهم المحفزات إلى جانب البيئة العلمية والاجتماعية التي توفرها البلدان المتقدمة، وعلى رأسها سويسرا.    

وفي كل الأحوال، يتساءل المتتبعون دائما لماذا مُنحت الجائزة إلى هذا بدل ذاك محاولين إيجاد الثغرات في منح مثل هذه الجوائز العالمية. وفي هذا السياق، ثمة تساؤل عن منح الجائزة إلى الباحثة الأوكرانية خلال هذه السنة بالذات وعن قوة الضجة الإعلامية التي أحاطت بها… وكأنها أول من فاز بهذه الجائزة. فهل هي حقا أفضل باقي الرجال والنساء الرياضياتيين من شباب العالم؟  

 وما زاد في شكوك هؤلاء المتتبعين أن أستاذة أوكرانية أخرى فازت أيضا -بمناسبة هذا المؤتمر- بجائزة عالمية فريدة يوم 2 جويلية في مؤتمر دولي موازٍ، وهي الباحثة سفيتلانا جيتوميرسكايا Svetlana Jitomirskaya (المولودة عام 1966) المنتسبة لجامعة أمريكية… وقد لاحظنا في الفيديو التعريفي الذي أعدّته بمناسبة منحها الجائزة أن مكتبها الجامعي مزدان بالعلم الإسرائيلي. تحمل هذه الجائزة (التي تُمنح للذكور والإناث) اسم العالمة الروسية أولغا لاديزنسكايا Olga Ladyzhenskaya (1922-2004)، وقد مُنحت أول مرة هذه السنة. تقول الفائزة جيتوميرسكايا في الفيديو المذكور أنها درست بجامعة موسكو مشدّدة على أن ذلك حدث رغم التمييز العنصري الذي يسود تلك الجامعة ضد اليهود. أما العالمة الروسية لاديزنسكايا التي سميت باسمها الجائزة فقد خدمت الرياضيات خدمة لا تضاهى طيلة حياتها. وليس سرًا أنها كانت ضمن الأوائل في قائمة المترشحين لميدالية فيلدز عام 1958، عندما كان عمرها 36 سنة، ولم يسعفها الحظ لنيلها لأن النساء الرياضيات وقتئذ لم يكن الاهتمام بهنّ مثل اهتمام اليوم، ولولاه لكانت لاديزنسكايا أول امرأة تفوز بهذه الجائزة. 

 القدس لنا… 

ولم يَكْفِ الاتحاد الدولي للرياضيات هذا التيْه والكيل بمكيالين إذ قرّر قبل نحو شهر عقد جلسة افتراضية للمؤتمر الدولي للرياضيات في القدس المحتلة. ولذا راسلت مجموعة من علماء الرياضيات في العالم هذا الاتحاد يوم 10 جوان 2022 محتجة بشدة على هذا القرار. 

وجاء في هذا الاحتجاج : “القدس مدينة تم احتلال الجزء الشرقي منها عسكريًا في عام 1967، وضُمت بشكل غير قانوني إلى إسرائيل، وهو ضمّ أدانته الأمم المتحدة مرارًا وتكرارًا… ونتيجة لذلك، يعيش أكثر من 300 ألف من سكان المدينة تحت الاحتلال العسكري، وهم مهدّدون تهديدا مستمرا بالمصادرة والطرد”. فقد أرادت الرسالة إثبات أن الاتحاد الدولي للرياضيات يكيل بمكيالين : فمن جهة، هو يسحب احتضان المؤتمر من المدينة الروسية سنت بطرسبورغ بحجة غزو روسيا لأوكرانيا بينما يسمح بعقد جلسة لهذا المؤتمر في مدينة القدس المحتلة من قبل إسرائيل! 

ما حدث أيضا هذه السنة هو أن هناك جائزة عالمية رفيعة تُمنح في نفس المناسبة الرياضياتية، تسمى جائزة رولف نيفانلينا Nevanlinna (1895-1980)، وهو رياضياتي فنلندي كان أحد الوجوه البارزة في المقاومة الفنلندية إبان الحرب التي شنها الإتحاد السوفيتي ضد بلاده في نهاية الثلاثينيات. وقد شهدت له أعلى السلطات الفنلندية بالأعمال الجليلة التي قام بها في ميدان الصواريخ. ويُروى أن نيفانلينا هو الذي أطلق أول قذيفة يوم 25 جوان 1941 ضد القوات الروسية إبان الحرب الخاطفة التي شنتها فنلندا لاسترجاع أراضيها المغتصبة. نشير إلى أنه على الرغم من ذلك الموقف البطولي الذي وقفه نيفانلينا ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية فإن السوفيات قد دعوْه سنة 1966 لرئاسة المؤتمر الدولي للرياضيات الذي انعقد بموسكو. 

 ويُهانُ العالمُ رولف نيفانلينا 

نحن نروي بعض جوانب حياة العالم الفنلندي نيفانلينا لأن هناك جائزة عالمية في المعلوماتية لدى الاتحاد الدولي للرياضيات، سميت باسمه منذ 1980. غير أن هذا الاتحاد قرّر هذه السنة إزالة اسم نيفانلينا من الجائزة واستبداله بـ  Abacus لتصبح الجائزة تحمل اسم ميدالية “أبكوس” Abacus (المِعداد). لماذا، يا تُرى؟  

لأن مؤرخ العلوم الأمريكي ذا الأصول اليهودية الروسية ألكسندر سويفر AlexanderSoifer زعم أنه عثر مؤخرا على وثائق تفيد أن العالم نيفانلينا كان متعاطفا مع النازية، بل ساعد قواتها الأمنية الخاصة في فنلندا على توظيف بعض  المواطنين! وقد انتقد البعض ما ذهب إليه المؤرخ سويفر مشيرين إلى مبادرة نيفانلينا -إن بادر فعلا- فلا شك أنه قام بذلك حمايةً لوطنه من عدوان ستالين على بلاده الذي اندلع في نوفمبر 1939 في ما عُرف في فنلندا بـ”حرب الشتاء” (Talvisota ). فوطنية نيفانلينا وحبه لبلده لا ينكرهما أحد، ولا يمكن لهذا الوطني أن يُقدّم خدمة مجانية لهتلر أو ستالين ضد مصلحة بلده. ومع ذلك، أصرّ ألكسندر سويفر على فكرة إزالة اسم نيفانلينا حتى أنه صرح بأنه مستعد لتوفير 15 ألف دولار (وهي قيمة الجائزة) في كل دورة إن كان المشكل مشكلا ماديا… وبذلك أقنع القائمين على الجائزة بحذف اسم هذا البطل! 

 فرنسا تنتقم  

لقد انطلقت مؤتمرات الاتحاد الدولي للرياضيات في أواخر القرن التاسع عشر، وتعثرت خلال الحرب العالمية الأولى. وكان ردّ فعل فرنسا وبلجيكا -بعد أن وضعت الحرب أوزارها- أن يتم عقد المؤتمر عام 1920 في ستراسبورغ، وهي المدينة التي استعادتها فرنسا للتو بعد نصف قرن من الحكم الألماني. وفي نفس الوقت، قرر هؤلاء حرمان الألمان وحلفائهم أبان الحرب العالمية من المشاركة في هذا المؤتمر، وكذا في المؤتمرات القادمة.  

وفي نهاية مؤتمر ستراسبورغ فاز الأمريكيون باستضافة طبعته القادمة التي نُظمت عام 1924. لكنهم عندما شرعوا في جمع التبرعات للمؤتمر في الولايات المتحدة، تفاجؤوا من التأثير السلبي الذي أحدثه الإعلان عن إقصاء الألمان ومن والاهم ولم يتمكنوا من تمويل المؤتمر. ولذا انتهز الكندي فيلدز Fields (الذي سميت باسمه الجائزة فيما بعد) الفرصة لتحويل مقر انعقاد المؤتمر إلى كندا لأنه كان قادرا على حل مشكل التمويل. وكان الأمر كذلك، وتأسست جائزة “ميدالية فيلدز” بهدف رئيسي، وهو الإسهام في تجاوز النزاعات بين الدول وتفادي حرمان أي جهة في العالم من الحصول على الاستحقاق العلمي أو المشاركة في اللقاءات العلمية. 

وهكذا نرى أن هذه الجائزة وُلدت قبل قرن جراء الحروب والنزاعات التي كانت سائدة آنذاك بين الدول الغربية. وكانت تسعى لتقريب “الفرقاء”. أما اليوم فإن سلوكات الاتحاد العالمي للرياضيات تبيّن بجلاء أنه لا يبصر إلا بعين واحدة ولا يصغي إلا بإحدى الإذنين، وما نظن أن الاتحاد الدولي للرياضيات هو الهيئة العالمية الوحيدة التي أصيبت بهذا الداء. فأي مستقبل علمي نزيه لهذه الهيئات المدّعية؟! 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!