-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحرب على أوكرانيا.. المسار والمآلات

عبد الحق مراجي
  • 1125
  • 0
الحرب على أوكرانيا.. المسار والمآلات
ح.م

في يوم 24 فيفري 2023، مر عام كامل على بدء الحرب على أوكرانيا، بدأت الحربُ كعملية خاصة بأهداف محددة ومحدودة وانتقلت شيئا فشيئا عبر الأسابيع والشهور إلى نزاع مسلح عالي الشدة في قلب أوروبا، بفعل تورط عدد كبير من الأطراف فيه.

بداية أرى أنه لابد من الاتفاق على أن الحرب بدأت فعلا منذ أفريل 2014 بعد نجاح الحركة الاحتجاجية “ميدان” المدعومة من الولايات المتحدة في الإطاحة بالرئيس المنتخب يانوكوفيتش القريب من روسيا واتخاذ السلطة الجديدة وقتها حزمة من الإجراءات ضد الأقلية الروسية ومنها منع استعمال اللغة الروسية إضافة إلى تدابير تمييزية أخرى. مما دفع شبه جزيرة القرم التي كانت تتمتع بحكم ذاتي الإعلان عن استقلالها والانضمام إلى روسيا الاتحادية وأعلن إثرها إقليما دونيتسك ولوغانسك الانفصال، لكنهما لم يحصلا على الدعم الفعلي واللازم من موسكو فاندلعت المواجهات مع الحكومة المركزية لتستمرّ ثماني سنوات.

كما ينبغي التأكيد أنه كان بالإمكان حل النزاع لو التزمت الأطراف باتفاقية مينسك لسنة 2015. لكن الأطراف الضامنة وهي ألمانيا وفرنسا تخلت عن دورها وفعلت كييف ما تريد بتحريض من واشنطن.

ويجب أن لا ننسى أن الحرب في حد ذاتها فشلٌ للسياسة، وهي مأساة إنسانية كبرى تحمل الدمار والموت والحزن لجميع الأطراف ولا يوجد فيها طرف ملائكي وطرف شيطاني، بل هي صراع إرادات متضادة، الغلبة فيها للأكثر تحضيرا وإصرارا والأذكى في استعمال الموارد والذي يملك إستراتيجية متكاملة لإدارة الصراع بكل أبعاده.

سير العمليات:

سيطرت روسيا خلال  90يوما الأولى للحرب على 80 في المائة من المناطق التي ضمَّتها لاحقا وهي مناطق ذات أغلبية روسية (دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون).

كان تقدّم القوات الروسية سريعا وعميقا باستخدام الوحدات الميكانيكية والقوات المحمولة جوا تحت حماية الطيران ودعم كثيف وفعال من المدفعية. تمكنت القوات الروسية من الوصول إلى العاصمة كييف في الشمال واستولت على خيرسون في الجنوب خلال الأسبوع الأول من بداية النزاع.

بعد النكسات التي تلقاها الجيش الأوكراني في الأسابيع الأولى، تمكّن من استرجاع جزء من توازنه بفضل الدعم الأمريكي الكثيف، إذ استقرت الجبهة حول العاصمة وعلى مشارف خاركوف نزولا إلى الجنوب على خط عامّ يمر عبر ليمان، وإيزيوم، ليلامس الضفة الشرقية لنهر دنييبر ابتداء من جنوب زاباروجيا ونزولا إلى البحر الأسود.

نفذت القوات الروسية عملية إعادة انتشار كبيرة في إطار تغيير إستراتيجيتها، إذ بعد الانسحاب من ضواحي العاصمة كييف بداية أفريل 2022، ومشارف خاركوف منتصف شهر ماي، جاء دور ليمان بداية أكتوبر 2022 هي مدينة مهمّة جدا وتشكل عقدة مواصلات رئيسية، لتلحق بها خيرسون بداية نوفمبر 2022 إذ شهدت إخلاءً محيِّرا من طرف القوات الروسية التي انتقلت إلى الضفة الشرقية لنهر دنييبر مع إخلاء الأغلبية العظمى من السكان تحت أنظار القوات الأوكرانية دون تعرُّضها لأي نوع من المناوشات، وللعلم فإن خيرسون سقطت دون قتال خلال شهر مارس 2022 بفضل تعاون سكانها مع الجيش الروسي.

رسمت هذه الأحداث صورة ذهنية لدى المتابعين للأخبار عن اندحار روسي على طول جبهة القتال وانتصارات أوكرانية متتالية.. أقول صورة ذهنية بفضل القوة الخارقة لوسائل الإعلام الغربية، أما الواقع على الأرض ففيه الكثيرُ مما يقال.

العمليات الحربية على المستوى العملياتي والاستراتيجي ليست تقدُّما أو تراجعا متسلسلا ومستمرّا واشتباكا من دون انقطاع، بل هي حركة دائمة حتى من دون قتال، ففنُّ العمليات هو فن إدارة الحركة للحفاظ على التوازن اللازم للقوات.

النجاح العملياتي أو الاستراتيجي لا يكون بالضرورة الإجمالي الرياضي للنجاحات التكتيكية، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن تؤدي إلى نكسات عملياتية إذا كانت مفاجئة فقد تؤدي إلى تعقيدات للمستوى العملياتي من ناحية التأمين والاستقرار العامّ للتشكيل أو اللوجستيك.

الإستراتيجية الروسية

شهدت الإستراتيجية الروسية تطورا لافتا منذ 24 فيفري 2022، فقد اعتمدت بداية على المفاجأة وسرعة التنفيذ باعتماد المقاربة غير المباشرة، باستعمال حجم قليل نسبيا من القوات عالية التأهيل والحركة، وقد لاحظنا كيف تمكّنت هذه القوات -رغم صغر حجمها- من تحقيق تقدم باهر في الأسابيع الأولى، إذ تمكنت من تطويق التجمّع الرئيسي للقوات الأوكرانية في منطقة “دونباس” من ثلاث جهات شمالا من خاركوف وجنوبا من خيرسون وشرقا بتقدم قوات الجمهوريتين مع تطويق العاصمة كييف لشل المناورة الإستراتيجية وكذا شل منظومة السيطرة الأوكرانية.

اعتمدت الإستراتيجية الروسية على تجنب استخدام القوة إلا بالقدر اللازم دون الإفراط في تدمير البنية التحتية أو حتى المنشآت الحيوية مع تجنب إسقاط ضحايا مدنيين، فقد تجنّبت الدخول عنوة إلى المناطق السكنية والمدن وتجنبت الإسراف في استخدام القوة التدميرية للطيران والصواريخ، واعتمدت بدل ذلك على قوة وكفاءة مدفعيتها وعلى وحداتها المدرعة ووحدات الإنزال الجوي لإحداث التأثير المطلوب.

ومع تطورات الموقف السياسي وحماس الدول الغربية المحموم لمساندة أوكرانيا والإرادة الأمريكية الظاهرة لمنع عقد اتفاق يضع حدا للحرب كما طلب الرئيس الأوكراني في الأيام الأولى، أضحت هذه الإستراتيجية غير مجدية، فحاول الروسُ تكييفها مع المحافظة على الاتجاه العامّ ومبادئها الأساسية. عملية التكييف هذه استغرقت ستة شهور كاملة، إذ لجئوا إلى عمليات إعادة التجميع والانسحابات المتتالية بداية من الانسحاب من محيط العاصمة بداية شهر أفريل وصولا إلى إخلاء خيرسون مع بداية نوفمبر 2022.

تحوّلت الإستراتيجية الروسية إلى استخدام حجم أكبر بكثير من القوات، وعملت على تضييق جبهات الاشتباك، مع تحصين المناطق المستولى عليها، واعتماد إستراتيجية القضم البطيء والمستمرّ، وإنهاك الخصم بالاشتباك المستمرّ على كل الجبهات، مع إعطاء دور أكبر للمدفعية والصواريخ والمسيَّرات واستنزاف القوات الأوكرانية كما حدث في “سوليدار” ويحدث في “باخموت” حيث تشتغل رحى مجموعة “فاغنر”.

انتقلت روسيا إلى مستوى أعلى بالقصف المكثف للبنية التحتية ومصادر الطاقة وطرق المواصلات على كامل الجغرافيا الأوكرانية والتي كانت قبل هذا التاريخ عموما خارج دائرة الاستهداف، كما دخلت أسلحة جديدة حلبة الصراع مثل موجات المسيَّرات الانتحارية والصواريخ فرط صوتية التي يتم إطلاقها من السفن في البحر الأسود ومن القاذفات الإستراتيجية من داخل المجال الجوي الروسي وبصُليَّات من الصواريخ البالستية بأعداد مهولة جعلت الكثير من خبراء البلاطوهات في التلفزيونات الغربية يجزمون بأن مخزون الصواريخ سينفد قريبا، لكن القصف مازال مستمرًّا وبعشرات الصواريخ يوميا.

هدفُ روسيا الواضح أضحى ليس فقط استنزاف القوة البشرية الأوكرانية، بل تدمير البنية التحتية الأوكرانية وخاصة الطاقية أيضا، لعلّ الشتاء يجبر أوكرانيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ومن جهة أخرى إظهار مدى قدرة موسكو على إلحاق الضرر البالغ بأوكرانيا وأنها لم تستخدم كل ما جعبتها بعد، لكن صاحب القرار الفعلي في الجهة الأخرى غير متضرر مباشرة، لذلك من المستبعد أن يتحقق الهدف المنشود بهذه الطريقة.

من الضروري الإشارة إلى أن محاولة تطويق العاصمة كييف، منذ بداية العملية الخاصة، كانت مناورة ذكية جدًّا من الجانب الروسي، الذي من خلال الضغط على العاصمة، أعاق تمامًا قدرة القوات الأوكرانية على المناورة بإجبارهم على اختيار أسلوب عمل جعلهم يفقدون المبادرة الإستراتيجية ويشتتون جهودهم.

الإستراتيجية الأوكرانية

حسب المصادر المفتوحة، فإن أوكرانيا غداة استقلالها سنة 1991 ورثت عن الاتحاد السوفيتي المُحلّ جيشا ضخما بقوام 780 ألف جندي، وهو مزوّد بـ6500 دبابة، 6900 عربة مدرعة، 7200 مدفعية و1500 طائرة حربية و710 حوّامة، كما ورثت أوكرانيا أكثر من 3700 رأس نووي منها 1272 مركَّبة على صواريخ عابرة للقارات.

بمقتضى مذكِّرة بودابست سنة 1994 تخلَّت أوكرانيا عن ترسانتها النووية لصالح روسيا التي ورثت تركة الاتحاد السوفيتي النووية وجميعَ الديون المترتبة عليه، وكذلك ورثت مقعده الدائم في مجلس الأمن.

ظلّت القوات المسلحة للدولة الناشئة خارج اهتمام الساسة، مما أدى إلى تدهور حالتها العملياتية، وكان نصيبها السنوي من الدخل القومي لا يتعدى 1.58 في المائة من الناتج الوطني الخامّ. ولما طلبت أوكرانيا الانضمام إل الحلف الأطلسي “ناتو” رُفض طلبها في اجتماع “بوخارست” سنة 2008. قامت روسيا حينها بتعليق جميع أنواع التعاون العسكري مع أوكرانيا، مما فاقم الوضعية المزرية للجيش وفقد الكثيرَ من جاهزيته.

سنة 2014 عند اندلاع أزمة دونباس كان الجيش الأوكراني في حالة يرثى لها ينخره الفساد والإهمال وسوء التدريب والانضباط. وعند ضم روسيا لشبه جزيرة القرم لم يكن بمقدور الجيش الأوكراني سوى تخصيص قوة صغيرة بقوة مجموعة تكتيكية لمجابهة الموقف. في حين انشقَّت وحداتٌ كاملة بعتادها والتحقت بالانفصاليين، حاولت الحكومة تدارك الأمر فضاعفت عدة مرات الميزانية المخصصة إذ بلغ نصيب الجيش 4.1 في المائة من الدخل الوطني الخام، ولجأت الحكومة إلى الاستعانة بالمليشيات التي تشكَّلت خلال فترات الفوضى المتعاقبة وضمتها إلى قوام الجيش، كما أعادت فرض الخدمة العسكرية، فاستقرّ قوام الجيش في حدود 240 ألفا، وقام حلف الناتو عن طريق بعثته التدريبية بالإشراف والمتابعة والمشورة، وقام بتقديم مساعدات تقنية تخص الاتصالات وبعض التجهيزات التقنية، لكن التسليح بقي على النمط السوفيتي.

استنزفت حرب “دونباس” الجيش الأوكراني الذي مُني بهزائم متعددة خلال السنة الأولى من النزاع لتستقرَّ الأمور شيئا فشيئا بعد ذلك مع انخراط حلف الناتو أكثر فأكثر في تأطير الجيش الأوكراني وتجهيزه.

اعتمد الجيشُ الأوكراني أساسا على وحدات حماية الإقليم وأغلبيتها من المتطوعين من المليشيات السابقة، وهي وحدات خفيفة جلّ أفرادها من العسكريين السابقين والمتطوعين الذين اكتسبوا خبرة في قتال المدن ضد الانفصاليين، لكن روح الانضباط لديهم ضعيفة وهم مخترَقون تماما إيديولوجيًّا خاصة من النازية الجديدة واليمين المتطرف مثل حركات “سفابودا” و”القطاع الأيمن” وفوج “أزوف” ومليشيا “أيدار”…

لاحظنا عند بداية الغزو الروسي أن الجيش الأوكراني ظل لمدة أشهر غير قادر على القيام بأي مناورة عملياتية بالقوات، وقد فقدَ القسم الأعظم من عتاده الثقيل خلال الأسابيع الأولى من الحرب.

كما تم تدمير مجمل قواته البحرية وتحييد قواته الجوية بالكامل وكذا دفاعاته الجوية فلم تعد قادرة على العمل كمنظومة رغم تلقيها سيل من العتاد السوفيتي الذي كان لدى دول أوروبا الشرقية سابقا (بولندا، رومانيا، بلغاريا، دول البلطيق…)، وكذا سيل من الأسلحة الغربية من صواريخ م/ د “جافلين” ومضادات أرضية خفيفة “ستينغر”، لكنها ظلت محدودة التأثير لأنها ذات مدى قصير ولا تعمل في منظومة مركزية منسَّقة.

اعتمدت الإستراتيجية الأوكرانية أسلوب المواقع المحصَّنة في مواجهة الهجوم الروسي، وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعته القوات الألمانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ حوَّلت كل مدينة إلى قلعة محصَّنة يصعب اقتحامها، وهو أسلوبٌ بدائي موروث من حروب القرون الوسطى وغير مجدي بتاتا مع حروب الحركة.

لماذا لجأ الأوكرانيون إلى مثل هذه الإستراتيجية التي كلفتهم الكثير؟ ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية هو أنهم فوجئوا بحجم الهجوم الروسي، والسبب الآخر هو أن الجيش الأوكراني عرف إعادة هيكلة عميقة ابتداء من 2014 وتغييرا عميقا في عقيدته القتالية بسب إخفاقاته المتتالية في “دونباس” في مواجهة الانفصاليين، فضلا عن الخسارة المذلّة لشبه جزيرة القرم من دون قتال، مما أحدث اهتزازات عنيفة في سلسلته القيادية وأفقده القدرة على مراكمة الخبرات، يضاف إلى ذلك تدخُّل السياسة في إدارة العمليات بسبب الخوف من الانهيار التام للجبهة، خاصة وأن القوات الروسية أصبحت على أبواب العاصمة.

تعاظم طغيان الجانب الإيديولوجي في قراءة الموقف بسبب الدور المركزي لوحدات حماية الإقليم المشكَّلة أساسا من مليشيات إيديولوجية متعصِّبة وعنيفة وحتى نيونازية، ضُمَّت شكليا إلى قوام الجيش، لكنها فعليا لم تكن تخضع تماما لسلطة القيادة بل لقادتها ومموِّليهم.

خسائر الجانبين

تؤكد آخر التحاليل الاستخباراتية مثل تقرير الموساد الإسرائيلي المنشور في صحيفة hurseda.net الالكترونية التركية بتاريخ 25 جانفي 2023 أرقاما مذهلة عن حجم الخسائر الأوكرانية أما الخسائر الروسية فهي عكس ما هو متداول في وسائل الإعلام الغربية، قليلة بشكل مذهل. يؤكد التقرير أن أوكرانيا خسرت حضيرتها من الدبابات والتي كانت تقدر ب 1500 دبابة يضاف لها ما تلقته من دول أوروبا الشرقية أي حوالي 500 دبابة، أي ما مجموعه 2000 دبابة، والسؤال الذي لم يجب عليه أحد هو كيف يمكن ل 300 دبابة من 4 أنواع مختلفة التي وعدت بها من دول الناتو أن تحقق ما عجزت عنه 2000 دبابة.

مآلات الحرب

أكملت الحربُ عامها الأول وتحولت خلاله من عملية خاصة إلى نزاع مسلح عالي الشدة في قلب أوروبا، كيف ستكون مآلاتها وهي تدخل عامها الثاني؟

على الجانب الأوكراني يستمرُّ تدفق العتاد الحربي بكلِّ أشكاله أو على الأقل سيل الوعود والإعلانات مازال كسيل دافق؛ لكن حال القوات الأوكرانية على الأرض لا يبشِّر بالخير؛ فقد استُنزفت مواردها البشرية حتى العظم، وأقصى ما تستطيع هذه القوات فعله هو التخندق والتحصُّن الجيد ومحاولة تكبيد القوات الروسية أكبر ما يمكن من خسائر إن هي حاولت الاستيلاء على مزيد من الأراضي.

من دون الوقوع في تمجيد الجانب الروسي وتنزيهه، فإنه من الواضح أن هذه الحرب سوف تنهي وجود أوكرانيا كما عرفناها، وبقاياها لن تكون قادرة على إعادة جبر النسيج الوطني لفرط ما لحق به من تدمير وتمزيق. هذه الحرب سوف تعيد توزيع أوراق النفوذ العالمي لخمسين سنة قادمة.

من الجانب الروسي يستمر الحشد تحضيرا لهجوم كبير يهدف إلى إكمال الاستيلاء على إقليم دونباس وصولا إلى “زابروجيا”  لتحصين محطة “إينرغودار” النووية والوصول إلى نهر “دنييبر” قبل نهاية شهر أفريل وبداية ذوبان الجليد الذي يجعل الأرض غير قابلة للتحرُّك حتى جفافها شهر جوان. القوات الروسية تريد بهذا الهجوم استباق أي دعم كبير يمكن أن يصل الجبهة الأوكرانية وترسيخ مكتسباتها الترابية وجعلها خارج أي مفاوضات مقبلة، فوصول القوات الروسية إلى نهر “دنييبر” شمالا عند مدينة “دنيبرو” مرتكزة على نهر “أوريل” من الجنب الأيمن وصولا إلى “زابروجيا”  ثم “خيرسون” جنوبا سيمنحها امتيازاتٍ عملياتية غاية في الأهمية ويزيد في تأمين القوات بفعل ارتكازها على حاجز طبيعي صعب العبور ويمكن أن يشكل حدودا طبيعية تُرسم على أساسها الحدود السياسية عند مفاوضات السلام الحتمية بين الأطراف.

على الجانب الأوكراني يستمرُّ تدفق العتاد الحربي بكلِّ أشكاله أو على الأقل سيل الوعود والإعلانات مازال كسيل دافق؛ لكن حال القوات الأوكرانية على الأرض لا يبشِّر بالخير؛ فقد استُنزفت مواردها البشرية حتى العظم، وأقصى ما تستطيع هذه القوات فعله هو التخندق والتحصُّن الجيد ومحاولة تكبيد القوات الروسية أكبر ما يمكن من خسائر إن هي حاولت الاستيلاء على مزيد من الأراضي.

من دون تبخيس لشجاعة وكفاءة المقاتلين الأوكرانيين الذين حُكم عليهم بالتواجد على خطوط النار وهم وقود هذه الحرب التي قررها غيرُهم في إطار لعبة كبرى تتعدى وطنهم، وهم يواجهون آلة حرب جبارة، وفي النهاية هم يدافعون عن بلدهم. وكذلك من دون الوقوع في تمجيد الجانب الروسي وتنزيهه، فإنه من الواضح أن هذه الحرب سوف تنهي وجود أوكرانيا كما عرفناها، وبقاياها لن تكون قادرة على إعادة جبر النسيج الوطني لفرط ما لحق به من تدمير وتمزيق. هذه الحرب سوف تعيد توزيع أوراق النفوذ العالمي لخمسين سنة قادمة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!