-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحرب في أوكرانيا بين المأساة والملهاة

الحرب في أوكرانيا بين المأساة والملهاة

لقد طال أمد الحرب في أوكرانيا وتبين أن العملية العسكرية التي قال عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنها ستكون مهمة سهلة وعملية سريعة لأيام معدودات من أجل تأديب فتى أوكرانيا، قد أضحت مهمة صعبة وطويلة المدى لا يمكن التكهن بالرابح والخاسر فيها في ظل المستجدات والتغيرات التي طرأت على مسار الحرب بعد شهرها الأول أو يزيد.
إن الحرب في أوكرانيا ستكون حربا طويلة الأمد وإن آثارها المدمرة ستستمر في هذا الجيل وفي الأجيال التي ستأتي بعده، والسبب في ذلك على وجه الخصوص -كما يقول المحللون السياسيون- أن هناك لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقيدة راسخة بأن أوكرانيا ليست إلا جزءا مقتطعا من الوطن الكبير في السنين العجاف التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، وبأن التاريخ -كما يضيف فلاديمير بوتين- يشهد بأن الأوكرانيين والروس شعبٌ واحد وبأن يدا خارجية هي من عبثت ومزقت هذه الوحدة وبأن الوجود الروسي في أوكرانيا ليس احتلالا -بأي شكل من الأشكال- بل الهدف منه هو استعادة الوحدة التاريخية الروسية الأوكرانية التي عمل النازيون الجدد على إعاقتها من خلال سعيهم في تأليب المجتمع الدولي ضد روسيا وتصويرها على أنها دولة احتلال وعلى أن العملية العسكرية التي تخوضها في أوكرانيا هو اعتداء صارخ على الشرعية الدولية وعلى سيادة دولة مستقلة.
يخطئ من يعتقد بأن فلاديير بوتين شخصية عسكرية محضة لا يحسن إلا الضغط على الزر وقيادة حروب الجو والبر وبأنه لا يفقه في أمور التاريخ والسياسة شيئا. إن بوتين كما وصفه المقربون منه وكما كتب عنه الإعلاميون هو شخصية متعددة المواهب فهو يقرأ كثيرا ويطالع كثيرا ويطلع على سيرة القادة التاريخيين ويستلهم منها روح التحدي والتصدي وبناء على ذلك -كما يضيف هؤلاء الإعلاميون- ليس من الصدفة أن يجدد الروس في كل عهدة انتخابية جديدة وبأغلبية كبيرة ثقتهم في بوتين إذ لم يحدث إلا مرة واحدة أنه خسر السباق الرئاسي الذي فاز فيه رئيس الوزراء ميدفيدف، ولكن بوتين عاد في المرة القادمة واحتفظ بالكرسي الرئاسي كل هذه الفترة.
لا أجاري بعض استطلاعات الرأي التي تتحدث عن سيناريوهات ثلاثة لنهاية الحرب في أوكرانيا: السيطرة الروسية على أوكرانيا، أو خسارة روسيا للحرب، أو اختيار طريق المفاوضات لإنهاء الحرب. إن نهاية الحرب في أوكرانيا لن تكون بهذه الطريقة الساذجة بل ستكون -إن حدثت- نهاية ظرفية مؤقتة تعقبها صراعاتٌ ومواجهات حضارية عميقة بين الروس والأوكران.
إنني أنظر إلى الحرب في أوكرانيا على أنها مأساة وملهاة في نفس الوقت، فهي مأساة حقيقية لأنها حصدت لحد الآن من الجانبين خسائر بشرية مروعة في عصر يتباهى فيه مجلس الأمن الدولي بأن المجتمع الدولي المعاصر قد ودع زمن الصراعات والحروب وبأنه قد التف حول مبدأ السلم والتعايش المشترك. إن ما يحدث في أوكرانيا هو ترحيل بشكل أو بآخر للحروب القديمة التي أذن بها القيصر للحفاظ على سلطته التي كانت مهددة من رجال السياسة والعسكر.
لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا بأنه لا يزال في عصر حوار الحضارات هيمنة لمنطق الحرب على منطق السلم وبأن المجتمعات المعاصرة لم تتعاف من بعض الأمراض السلوكية التي ورثتها عن المجتمعات القديمة. أليس من المبكيات أن تتحول أرقام الضحايا من الروس والأوكرانيين إلى مادة تتسلى بها بعض القنوات الإعلامية التي تعلق عليها في بعض الأحيان بأنها خسائر بسيطة، فهل في فقدان الحياة الإنسانية ما يمكن وصفه بأنه خسائر بسيطة؟ إن الحياة الإنسانية هبة إلهية ومن الاستخفاف التهوين منها أو جعلها مادة للتلهي والتسلي.
علق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على المأساة الأوكرانية بأنها تحذير حقيقي للاتحاد الأوروبي وقد قال بهذا الخصوص في رسالة بعثها إلى قادة الاتحاد الأوروبي بمناسبة “يوم أوروبا”: “لقد حان الوقت كي يدون الاتحاد الأوروبي الذي ابتعد عن قيمه التأسيسية وخضع لتأثير السياسات قصيرة المدى للدول الأعضاء، قصة جديدة بالتزامن مع الحرب الأوكرانية”.
إن في رسالة أردوغان هذه تذكيرا لأوروبا بطريقة غير مباشرة بأن التهديد الروسي هو ثمن لتصويتها في سنوات مضت ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فأوروبا بهذا القرار قد خسرت سندا وحليفا كبيرا هو تركيا. لا أعتقد أن قادة الاتحاد الأوروبي ستخفى عنهم قراءة رسالة أردوغان بهذه الطريقة التي تحدثت عنها ولكنهم لا يفصحون لأنهم لا يريدون ببساطة خسران تركيا كحليف وكشريك مهم في حلف الناتو.
أعلن الاتحاد الأوروبي منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا انحيازه المطلق إلى أوكرانيا ضد روسيا، ولهذه الانحياز الأوروبي مبررات كثيرة أهمها أن أوكرانيا أقرب في سياستها وتركيبتها الاجتماعية إلى أوروبا، هذا ما يبدو لكثيرين لأول وهلة، ولكن إذا أمعنّا النظر في أبعاد الدعم الأوروبي لأوكرانيا فإننا نقف على حقائق أخرى، ومنها أن أمن أوروبا مقدم على أمن أوكرانيا، وأن ضمان بقاء الحرب في أوكرانيا وعدم امتدادها إلى أوروبا يمثل نوعا من الحماية لأوروبا من الاعتداءات الروسية، والواقع يؤكد الحقيقة التي أشرت إليها، فالقادة الأوروبيون حريصون على أمن القارة أكثر من حرصهم على أمن أوكرانيا طالما أن أوكرانيا تمثل جدارا أماميا ضد الامتداد الروسي.
كتب مصطفى أبو السعود في “فلسطين أون لاين” مقالا بعنوان: “الحرب في أوكرانيا.. ملهاة أم مأساة”، وبين مقالي ومقاله تقاطعات كثيرة، ومنها تأكيده فرضية أن تكون الحرب في أوكرانيا ملهاة حقيقية تماما كما هي مأساة حقيقية، فهو يؤكد في مقاله ما ذهبت إليه وهو “أن المصالح هي المحرك الوحيد لأي سياسة، فلا يظن أحدٌ أن أمريكا والغرب تدافع عن أوكرانيا من باب الإنسانية، فأوكرانيا في بطنها الخير الكثير مما يسيل لعاب الكثيرين”. ويضيف أبو السعود أن الحرب في أوكرانيا “أظهرت كذب وزيف الغرب فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحماية المدنيين وقت الحرب، فالساسة الغربيون الذين تحدثوا عن ضرورة حماية المدنيين وحقوق الإنسان هم أنفسهم الذين بلعوا ألسنتهم حينما تعرض أبرياء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها للموت الزؤام، خاصة أن روسيا التي تقصف أوكرانيا هي ذاتها التي تقصف أطفال سوريا”.
إن ما ذهب إليه مصطفى أبو السعود بشأن المواقف الأوروبية غير العادلة من القضية الفلسطينية والقضية الأوكرانية حقيقة لا يمكن نكرانها، ولكننا نقول وبكل موضوعية إن أوكرانيا تتعرض أيضا لحرب إبادة وإن غاية ما تفعله أوروبا هو توفير المأوى للمشردين والتدخل لدى ساسة موسكو وساسة كييف من أجل فتح ممرات آمنة للمدنيين واحترام الهدنة لإجلاء المهجرين، فالمأساة في الحالة الأوكرانية قائمة ولو أنها أهون من المأساة الفلسطينية، وتفسيرنا لذلك أن أوروبا يهمها في البداية والنهاية أمنها القومي ولا يهمها أمن فلسطين ولا أمن أوكرانيا فهي تتخذ من أوكرانيا ملهاة لتفادي أي مواجهة مسلحة محتملة مع روسيا.
أريد في نهاية هذا المقال أن أقول شيئا قد يعدّه بعض القراء أمرا مستحيلا ولكنه في اعتقادي الحقيقة التي ستُثبتها الأيام وهي أنه رغم القبضة الحديدية والفجوة الكبيرة التي حدثت في العلاقات بين روسيا وأوروبا بسبب أوكرانيا ورغم الحزمة الهائلة من العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا إلا أن كل ذلك سيزول مستقبلا بمجرد أن تضع الحرب أوزارها لأن روسيا لا تريد خسارة أوروبا وهذه الأخيرة لا تريد خسارة روسيا فالحرب في أوكرانيا كانت مأساة للأوكرانيين وملهاة لعب على وترها الساسة الأوروبيون وساسة الكرملين كل على طريقته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!