-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“الحرقة”.. الوجهُ الآخر لأزمة القيم!

“الحرقة”.. الوجهُ الآخر لأزمة القيم!

لا شك أنّ الدراسات السوسيولوجية ترجِّح تدخّل العوامل الاقتصادية والسياسية، وتداعياتهم الاجتماعية على الشباب، في تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعيّة بمنطقة المغرب العربي، وفي المقدِّمة منها المغرب والجزائر وتونس وليبيا خلال السنوات الأخيرة، باعتبارها بؤرة نزاع مسلّح.

تلك المسبِّبات تؤدي في النهاية إلى تفشّي آفة البطالة بكل شرورها وانسداد الأفُق في التغيير أمام الأجيال الصاعدة، إذ تفقد الأمل في تحقيق ذاتها وصناعة مستقبلها كما تحلم به على أرض الوطن، ما يضطرّها إلى المغامرة بحياتها فوق عباب البحر، للخلاص من واقع مرير، تراه بمثابة موت بطيء محقّق، ليس أرحم بها من الهلاك غرقا في قاع المحيطات.

إنّ هذا التشخيص الموضوعي ليس أبدا تبريرا لسلوك خاطئ من شباب يائس من الحياة، يتمنى قبل الرحيلِ الرحيلَ، بل محاولة من المختصين لفهم نفسية هؤلاء القانطين ورسم خارطة ذهنية لدوافع تصرفهم العنيد تجاه أنفسهم والمجتمع على السواء، إذ يمكن لأصحاب القرار البناءُ عليها في بلورةٍ مقاربة شاملة لمعالجة الظاهرة، عوض الارتكاز على خطة أمنية تسعى إلى استئصال الأعراض، بينما يظل مكمن العلّة ينخر كيان الدولة.

لكنّ توخّي الحقيقة الكاملة يوجب النظر في عوامل أخرى، صار لها التأثير البالغ في تشكيل وعي الشباب وقرارهم بهجرة الأوطان مهما قوي الارتباط وجدانيّا بها، لأن الوطن عند هؤلاء أصبح رديف الموطن، حيث تتوفّر الفرصة الممكنة في حياةٍ كريمة.

عندما تُعلمنا مصالح الأمن بفاجعة العثور على جثّة شابيّن بأحد أجزاء طائرة للخطوط الجوية الجزائرية، أعمارهما بين 20 و23 سنة، وقبل أيام تترك فتاة في ألـ17 من عمرها، رسالة وداع لأهلها قبل الهروب إلى الضفة الأخرى، فإنّ الأمر لا يتعلق مبدئيّا بضغوط الظروف الاقتصادية، والتي يمكن تفسيرُها بالأحكام الجاهزة عن البطالة في الجزائر، بل يتعدى الموقف إلى إشكالية قيم تهزّ المجتمع بفعل التحولات الوطنية والكونيّة.

إنّ إقبال شباب في عمر الزهور على المجازفة بحياتهم دون أدنى اعتبار لخطر الموت، قد يجد تفسيره في سطوة الانبهار بالآخر، على قاعدة ابن خلدون “المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب”، بفعل الانفتاح الرهيب وتأثيرات التكنولوجيا الرقميّة على ثقافة الجيل الجديد، إذ أضحى العالم اليوم مجرّد قرية صغيرة مفتوحة على كل سكان المعمورة، ما أدى إلى تضخّم الأحلام الورديّة في بلوغ أرقى المراتب ضمن السلّم الاجتماعي بأيسر الطرق المتوهّمة، عن طريق مغامرة العبور نحو الضفة الأوروبيّة.

وتشير دراساتٌ مختصة أنّ قصص نجاح “الحرّاقة” الناجين لها تأثير بالغ على سلوك الحالمين بالهجرة، مع أنّ أوضاعهم قد لا تكون بالضرورة سيِّئة إلى حدّ المخاطرة بأرواحهم، ولكن قوّة الانجذاب لها سطوتها على نفسية هؤلاء في البحث عن ظروف أحسن، وهذا الواقع ينطبق حتى على الأوروبيين في هجرتهم نحو أمريكا خلال السنوات الأخيرة، لأنّ الهجرة في عصر العولمة أضحت ظاهرة أفُقية مفتوحة بين الأمم المتقدمة نفسها.

بالمقابل، هل من المعقول أن تفكّر فتاة دون سنّ البلوغ، أو شابٌّ عشرينيٌّ في “الحرقة” بداعي انعدام الفرص في بلادهم؟ بالله عليكم: متى بحث هؤلاء عن العمل؟ وكم تحمّلوا من المشاقّ والنّصَب في طلب الرزق؟

ينبغي الاعترافُ بأن المشكلة في هذه الحالة قيميّةٌ خالصة تتدثّر بغطاء مادّي، وهي أنّ قطاعا واسعًا من الجيل الصاعد غير مستعدّ للبذل والتضحية والتعب في طلب الدنيا والنجاح الاجتماعي، بل يريدها متاحة له دون عناء ولا كَبَدٍ، بالحلال أو الحرام، فهو غير جاهز للارتقاء المتأنّي في مدارج الفلاح، لذلك نشاهد مؤخرا عزوف شبابنا، خاصة في مدن الشمال، عن أعمال الفلاحة والأشغال وباقي المهن الشاقّة، ولولا تغطية الرعايا الأفارقة لتلك القطاعات لتعطّلت بالكامل.

ثمّ لماذا يغلق شابٌّ محلّه الصغير أو يبيع سيارته وحتّى مسكنه أحيانا كما يطلّق آخرون حرفتهم المُربحة أو تمنح الأم مجوهراتها لفلذّة كبدها حتى تمكّنه من “الحرقة”؟ هل نصدّق أن هؤلاء قد انعدمت بهم سُبل الحياة بين أهلهم وذويهم؟

ألم يكن في مقدورهم الصبرُ على كسب قوتهم بعرق الجبين واتخاذ كلّ الأسباب، حتى يفتح لهم الرزّاقُ أبواب اليسر والكفاف، بدل تعريض أنفسهم للتهلكة؟

ليس هذا خطابا وعظيّا نواجه به محنتنا، بل لنقرّ أنّ المشكلة أعمق من ذرائع المعيشة الضنكى؟ فهي مرتبطة في جانب منها بنمط تفكير طارئ وطغيان لقيم المادة، بغضِّ النظر عن الأسباب العميقة وراء ذلك، وعلى رأسها بروز التمييز الطبقيّ وتراجع الطبقة الوسطى، مقابل استشراء الفساد العامّ والثراء الفاحش غير المشروع.

ليس لنا الحقُّ في محاكمة الناس أو الاعتراض على أحلامهم، ولا يمكن لأحدٍ تغطية الشمس بالغربال في البلاد المغاربيّة عموما، لكن تسويد الصفحة بالكامل غير موضوعي، لأن آفاق العيش في الجزائر مفتوحة مهما اشتدت العقبات، ولا يغني تحميلُ مؤسسات الدولة بصفة مباشرة تبعات الظاهرة، عن إغفال أزمة القيم التي تدكّ اليوم حصون الثقافة الاجتماعية الأصيلة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!