الرأي

الحركة الإسلامية: أزمة القيادة وإعادة التشكيل

عبد الرزاق مقري
  • 5248
  • 31

لقد نشأ التيار الإسلامي في بداية القرن الماضي كمشروع إحياء وإصلاح وتجديد، ولم تكن الحركة الإسلامية في الجزائر سوى امتداد لهذا التيار العالمي تلتقي معه في الأسس والأهداف، وتتميز عنه في التاريخ والمسار، فأثرت في التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الجزائرية، وصنعت صحوة كبيرة عرفت مجدها في منتصف الثمانينيات، وحينما بلغت أوج القوة وظهر للرائي قربها من التمكين تلكّأت واضطربت وبدت كأنها (حادت) عن سكة التوفيق ورواق النجاح، إنه من المبكر كثيرا أن نقول بأن الحركة الإسلامية في الجزائر قد ضيّعت الفرصة وصارت متأخرة عن الركب بعدم وصولها للحكم مثل شقيقاتها في الوطن العربي، أو أن نقول بأنها متقدمة عن مثيلاتها لا تزال تطارد الفرصة التي منحها لها دستور 1989، وأن كل ما حققته من إيجابيات وسلبيات منذ ذلك الوقت يصبّ في خبرتها وتجربتها ستتجاوز بها مخططات خصومها.

 

يس المحيط الخارجي، لا الوطني ولا الدولي، الذي تتطور فيه الحركة الإسلامية في بلادنا، هو الذي سيكون له فصل المقال في هذا المصير أو ذاك المآل، إنما الذي يفعل ذلك هو قدرة قياداتها على تقييم ذاتها وتاريخها، والوقوف على تجربتها والاعتراف بكل النقائص والشوائب، وتثمين كل التوفيقات والنجاحات مهما كان الفصيل الذي أوقعها أو الطرف الذي وقّعها، لا أريد في مقالي هذا أن أتحدث عن الإنجازات التي حققها الإسلاميون ولكن سأذكر الخسائر الكبرى التي نالت من مصداقيتهم وهدّدت فرصهم، ثم أذكر عناوين مشروع إعادة التشكيل بما يجعل الحركة الإسلامية تستعيد قوتها كما كانت مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في بداية التسعينيات، ولكن مع قدر واجب من الحكمة والتعقل، أو كما كانت مع الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله وجماعته في النصف الثاني من الثمانينيات ـ أو محاولة منتصف التسعينيات ـ ولكن مع قدر لازم من الجرأة     والصرامة  .

إن أكبر ما أصاب الحركة الإسلامية منذ نشوئها هو ما خسرته على صعيد طبقتها القيادية حيث إن جيل اللّبِنَات الأولى من مختلف الجماعات والتنظيمات وفي مختلف الجهات والولايات لم يبق منه إلا القليل، ولعلنا لا نجد في الألف من هؤلاء إلا واحدا لا يزال يواصل الطريق بطريقة أو بأخرى، في هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الجمعية أو تلك، والأغلبية الساحقة ممن يشكل الهيئات القيادية في التيار الإسلامي اليوم هم من الجيل الثاني والثالث والرابع رغم ادعاءات السّبق لدى بعضهم ممن جاءت بهم ظروف الزمن للقيادة كمِظلِيين أُنْزِلوا في ساحة فارغة غاب فيها المؤسسون الحقيقيون لا تعرف أحياؤُهم وبلداتُهم لهم أثرا في النشأة الأولى، بل إن كثيرا من هذا الجيل لا يعرفون أسلافهم ولا تاريخ من سبقهم ولم يفلح الكثير منهم في المحافظة على المشروع الإسلامي كما استلموه ممن قبلهم ولم يقدروا على تطويره، فترى فيهم الجَلد في العمل التنظيمي و”الأكتفيزم” السياسي ولكنهم بلا إشعاع روحي ولا قوام سلوكي ولا زاد ثقافي ولا أذواق فنية ولا مبادرات إبداعيةإلا من رحم ربك.

 إن الأسباب التي غيّبت جيل التأسيس وحرّفت الكثير ممن تصدر المشهد القيادي في الحركة الإسلامية كثيرة، منها الانخراط في مشاريع التطرف التي لم تبق ظهرا ولم تقطع أرضا، ومنها الإنهاك الذي تسببت فيه الملاحقات والمضايقات الأمنية، ومنها اليأس الذي صنعته الطريق الطويلة والمسالك الوعرة والأوضاع السياسية المعقدة والحالات الاجتماعية الهشة والاستعدادات التربوية الضعيفة، ومنها قلة الصبر وخيبات الأمل في تحقيق الأهداف المرجوة بسبب المسار الانتخابي المحرّف، ومنها ضرورات المواءمة بين الأبعاد المبدئية والإكراهات الواقعية، ومنها خسائر المصداقية على درب المشاركة السياسية، وإغراءات المجالس البلدية والولائية والنيابية والمواقع الإدارية والمقامات الحكومية، ومنها الصراع على المناصب القيادية والبهارج الإعلامية، والتنافس على السيطرة والتحكم في أعناق التابعين، ومنها الاستسلام لإرادة الطرف الرسمي والرضا بالتبعية للحاكم المتغلب لأغراض شخصية أو جهوية أو لضعف في النفس أو ترهل في الفكر.

إن من أبرز النتائج التي تَسبّب فيها الضعف القيادي الإسلامي ظاهرة التشتت وشدة الصراع وغياب الرؤية العامة الشاملة الجامعة، وانشغال الذهن المنقبض بالعداوة عن القضايا الكبرى، وامتلاء النفس بمشاغل الأنا وهم الذات، وحين تعاظمت هذه الأدواء عرفها المتعاطفون مع المشروع الإسلامي فأصابهم الإحباط والانزواء بعيدا عن الفعل الإيجابي، ومنه الانتخابي، واطلع عليها خصوم التيار الإسلامي فصاروا يتوقعون تصرفات الإسلاميين، المغالبين منهم والمشاركين، فلا يجدون صعوبة في وضع المخططات التي تلهيهم وتورطهم وتشتتهم وتفقدهم الفاعلية والتأثير.

رغم هذا الحكم الشديد والتقييم القاسي بخصوص الطبقة القيادية ذات التوجه الإسلامي لا تزال الحظوظ قائمة والفرصة حاضرة ليحتل التيار الإسلامي مكانة الريادة في الجزائر؛ فالشعب الجزائري مسلم شديد الارتباط بقيمه مهما كانت درجة التزامه بشعائر دينه، دائم الاستعداد لمناصرة من يعرض له الإسلام كمشروع حضاري خادم للدين والدنيا بصدق وكفاءة، ولا تزال في صفوف التيار الإسلامي كفاءات وإبداعات وعبقريات وسمو أخلاقي وشهامة ومروءة، في النساء منهم والرجال، وخصوصا في شبابهم وطبقاتهم القيادية الوسطى والدنيا، كما أن طبقاتهم القيادية العليا في مختلف تنظيماتهم لا تزال تحتوي بقية باقية من ذوي المصداقية تكافح وتناضل بصبر واحتساب، كما أن طبقاتهم التي أصابها الدخن لها أصول خير قديمة قد تحدثها وتجذبها خصوصا مع التحولات الجارية التي تحرك ضمير من لا ضمير له.

إن أعظم ما يجب أن تقوم به القيادات الإسلامية لتظهر صدق يقظتها أن تتخلى عن مشاريعها وطموحاتها وأحلامها الشخصية، وأن تكون صادقة مع الله فلا تحدث الناس بما تعرف كذبه في نفسها، وأن تترك حكايات الزمن الخالي فتتسامح مع بعضها البعض فيما ما مضى، وتُولي وجهها شطر المستقبل لتُعيد تشكيل الحركة الإسلامية بما يجعلها تدرك ما أدركه أشقاؤها في البلدان العربية الأخرى، بل وتتفوق عليها بما تملكه من خبرة في بلد عرف أزمات عديدة رافقتها تجارب متنوعة لا نظير لها، وإني لأقترح على هؤلاء القادة الموقرين في هذا المضمار خطتين: الخطة الأولى عاجلة عنوانها وحدة الصف الانتخابي كحد أعلى وكف الأذى كحد أدنى، والثانية متوسطة وبعيدة المدى مهما كانت نتيجة الانتخابات المقبلة، عناوينها الاندماج كحد أعلى بين من لا يفرقهم شيء في المنهج مهما اختلفت مسارات التاريخ، والتعاون كحد أدنى حول مشاريع مستقبلية كبرى.

ومن هذه المشاريع إعادة التأهيل القيادي والرهان في ذلك على الشباب، الفتيان منهم والفتيات، ليكونوا أفضل ممن سبقهم علما وسلوكا ومهارة وفاعلية، والفصل الوظيفي بين ما هو دعوي وما هو حزبي، لتستقل الدعوة عن هيمنة السياسة فتكون هي قلب المجتمع وهي صانعة الرأي العام بعلمائها، مفكريها، مربيها، شعرائها، أدبائها، منشديها، مغنييها، رسّاميها، مسارحها، أفلامها، مدارسها، جامعاتها، إعلامها، مراكزها الدراسية، وجمعياتها الخيرية والخدمية والدفعية، وأوقافها ومؤسساتها المالية بأنماط هيكلية شبكية لا هرمية، وليكون العمل الحزبي هو ناقل الفكر الإسلامي ليجعله قواعد ومناهج وقوانين في الاقتصاد، العدالة، الصحة، التعليم، الثقافة، وغيرها، وليكون الإصلاح مؤسسيا تقوم به لجان متخصصة تقابل كلُّ لجنة منها قطاعا وزاريا تُقوّمُه بالنصائح العلمية أو تخلعه سلميا بعرض البدائل القوية المقنعة للجماهير حينما تُتاح فرص الحرية لذلك، فإن غابت الحرية تجعل الحرية أوليتها تكافح من أجلها، فتفرضها بقوتها الهادئة على الحكام الظالمين، وتطبقها في هياكلها وترعاها بنفسها ولو على حسابها حينما تواتيها فرصة الحكم والشهادة على الناس.

 

مقالات ذات صلة