-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
القرآن كلام الله المنزّل من السّماء

الحلقة (12): بين السفسطائية والعقلانية

خير الدين هني
  • 388
  • 0
الحلقة (12): بين السفسطائية والعقلانية

معايير العقل الطبيعية التي هي صفة مشتركة بين البشر، عندما سلمت من التشويه الثقافي والأيديولوجي والنزعوي في بداية أمرها، وضعت أسس المعرفة على قواعدها وأصولها ومناهجها الصحيحة، من غير تحريف ولا تبديل ولا تزوير، فوصلت إلينا سليمة من التزوير والتشويه الذي ألحقه بها السفسطائيون المدلسون، على نحو ما يفعله عبدة الطبيعة والمادة من مارقة العصر ومتشككيه.

السفسطائيون انحرفوا عن معايير العقل عندما بحثوا في أصل المعرفة، فجعلوا الحواس مصدرا للمعرفة من دون العقل، ولذلك كانوا أصحاب مدرسة احترفت الجدل المخادع، يلعبون بالألفاظ والمعاني فيثبتونها ما يشاءون بدليل ثم ينقضونها بدليل آخر، فكان أن قضوا على العقل وأصول المعرفة، ولو كتب لهم أن يتغلبوا على الحياة العلمية، لهدموا معايير العقل وأسس المعرفة وقادوا البشرية إلى عوالم مظلمة، لا يعرفون فيها أصلا من فرع.

ولكن العقل الذي سلمت فطرته واستقامت مناهجه، يأبى أن يترك الساحة فارغة للعابثين والمشاغبين والفوضويين، ممن فقدوا توازنهم العقلي ومعايير حكمه السليمة، فنهض فيلسوف حكيم “سقراط”، فهدم أسس المذهب السفسطائي، بنظريات جديدة أعادت إلى العقل اعتباره وجعلته أصلا في بناء المعرفة، وقضى على مذهب السفسطائيين وبين زيف لغوهم وخداعهم في أثبات الحقيقة.

وقرر في نظريته الجديدة أن الحواس تخدع في إثبات الحقيقة، ولا تعتبر مصدرا يعوّل عليه في بناء المعرفة، لأن الحواس ترى الشمس جرما متضائلا في الصغر، وهي أكبر من الأرض بما يمكن أن يوضع بداخلها 1.3 مليون كوكب مثل الأرض، كما أثبت ذلك علماء الفلك بالقياسات الرياضياتية والفيزيائية، فالعقل بقدرته الخارقة هو الذي أثبت حقيقة كبر جرمها بالتعقل والقياسات، ولذلك اعتبر سقراط العقل هو المصدر الأول  لبناء المعرفة، والعقل السليم لهذا الفيلسوف الحكيم، جعله ينكر آلهة اليونان المبطانة التي هي أوثان من الحجارة صنعها الإنسان بيديه واتخذها معبودات مقدسة، وهي لا تستحق إلا أن ترمى في مكبات الزبالة لحقارتها.

وقاده عقله الحكيم إلى البحث في طبيعة الكون وأصله وبديع صنعه، وإلى الإنسان وعقله ووجوده على هذا الكوكب متفردا في الخلقة والعقل والتفكير والإدراك، فعلم أن وراء هذا الصنع إلها حكيما عليما قديرا، أسماه العلّة الفاعلة أو العقل السامي، ولذلك سمي مع تلامذته أرسطو وأفلاطون بالفلاسفة المؤلهة، ممن يؤمنون بوجود قوى خارقة وراء صنع هذا الكون، خلافا للفلاسفة الطبيعيين ممن ارتكست عقولهم وأطلقوا العنان لأخيلتهم كيما تسبح في عالم الأوهام، فظنوا أن المادة العمياء هي التي نظمت نفسها ذاتيا من طريق الصدفة والاتفاق، فكونت هذا العالم البديع بنجومه وكواكبه، ومنه انبثقت الحياة من البكتيريا  ثم تطورت إلى الخلية الواحدة ومن تطورها عبر ملايين السنين خلقت الأجناس والأنواع، ثم أخذت في الترقي والبقاء والفناء عبر سلسلة طويلة من الصراع بين المخلوقات القوية والضعيفة والانتخاب الطبيعي، حتى انتهت إلى الإنسان والعقل والتفكير والإدراك، وهذه الفروض التي وضعها العلماء الطبيعيون لا دليل علميا يثبتها بالتجربة والملاحظة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!