-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (14): لكلّ جيل حظّه من الفهم (تابع)

أبو جرة سلطاني
  • 254
  • 0
الحلقة (14): لكلّ جيل حظّه من الفهم (تابع)

ب. البيان: فالقرآن خطاب عامّ للنّاس جميعا ومنهج بيان للنّاس كافة: ((هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُواْ الْأَلْبَابِ)) (إبراهيم: 52)، وفي النّاس عالم وجاهل وأميّ ونبيه وعييّ، وفيهم من له صلة بالغيب ومن يعبد صنمه أو هواه، وفيهم مشرك وكافر وأهل كتاب، وفيهم مزارع وتاجر وحرفيّ، ومن بينهم عاقل وحكيم وسفيه، وفي نفوس بعضهم طيبة أو خبث أو فجور أو كبْر وعناد أو حقد وحسد. ومن النّاس من يقاد بعقله فيجادل، ومنهم من يقاد بأذنيْه فيقلّد أو بعينيْه فيراقب أو بشهوته فيستهتر أو بغرائزه فيُغلب بها أو بعواطفه فيفزعه التّرهيب ويركن إلى التّرغيب، فإذا جاء القرآن بمنهج عقليّ نمطيّ جافّ كان ككتاب فيزياء ورياضة وعلوم دقيقة، فلن يعيره غير أهل الاختصاص بالَهم، ولن يفهمه إلاّ أولُو النّهى.

وإذا ركّز الوحيُ على هزّ العواطف ودغدغة المشاعر لن يؤمن به إلاّ الحالمون أو الفزعون المأزومون، وإذا سلك للنّاس طريق النّظر في ملكوت السّموات والأرض فحسب، لم يستفز من عقول البشر إلاّ من أعطاهم الله رشْدَ التّأمل وكمال التّدبّر كحال إبراهيم -عليه السّلام- ولو أقام هذا القرآن منهج الهداية على التّرغيب والتّرهيب فحسب لكان الإيمان رغَبًا ورهَبًا. لكنّ القرآن جاء بكلّ هذا وأكثر من هذا، فقد التمس الهداية للنّاس جميعا بملامسة أقفال النّفس البشرية كلّها، والإلحاح على العقل أنْ يسير في الأرض متفكّرا متدبّرا ليكون للإيمان عشرات المداخل ومئات المسالك وآلاف الأدلّة والبراهين. فإذا عزّ مدخل ذلّ آخر وإذا أغلق مسلك فُتح غيرُه. فإذا لم يقتنع العقل ببرهان جيء بغيره، ومثاله في تدوير قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) (الرحّمن: 13)، واحدا وثلاثين مرّة حتّى يقتنع العقل بحشْد الأدلّة وتوالي البراهين، وليس ذلك تكرارًا إنما هو انتقال من حال إلى حال لتقرير حقيقة التّوحيد، ومثالها ما تمّ تدويره بصيغة: ((أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) (النّمل: 62)، خمس مرّات، أو بصيغة: ((ويل يومئذ للمكذّبين)) (المرسلات: 15)، عشر مرّات ليختم بالقول: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)) (المرسلات: 50) لتقرير أنّ من لم يقنعه كلام الله لن يؤمن بأيّ كلام بعده. فهل تفسير القرآن تفسيرا واحدا يتيح للنّاس هذه الفرصَ كلَّها؟

ج. خصوصيّة كلام الله: فالقرآن الكريم كتاب خالق البشر وكلامه إلى الثّقليْن؛ فهو العليم بالخفايا والطّوايا والنّوايا: ((وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)) (الأنعام: 60)، وهو من صوّر وركّب وخلق وقدّر وهدى.. فكان كلامه لمن خلق دليلَ هداية و”دفتر صيّانة” ومرشد تشغيل “وقانون سيْر”.. أودع الخالق المعبود -جل جلاله- فيه من الإشارات إلى سننه في مخلوقاته الغائبة والحاضرة والجامدة والمتحرّكة والمسخّرة والمسيّرة والمخيّرة، ما لا تنقضي -بتعدّدها وتنوّعها واختلافها- عجائبُ قدرته في جمعها ونشْرها وتجدّدها وإتيانها أكلها كلّ حين بإذن ربّها. وكلّ ما ساقه النّص القرآني من أمثلة أو عرَضه من مبادئ أو تحدّثت عنه آياتُه وقصصُه من أخبار السّابقين أو تنبّأت بحدوثه كمعجزات قادمة.. لم تتنزّل على زمن الصّحابة والتّابعين فحسب، بل هي خطابٌ للسّابقين ونبأ للاّحقين وشحذ لهمم العاملين وتنبيه لضمائر الخاملين ووعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ودعوة للنّاس أجمعين إلى يوم الدّين: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة: 21)، وهي تكاليف لمن نزلت فيهم ولمن جاؤوا بعدهم إلى قيام السّاعة.

مادام العقل البشري يتطوّر والعلم يتقدّم والإنسان يزداد كلّ يوم اقترابًا من تقارب الزّمان ونهاية الكون، فإنّ هذه الإشارات تتحوّل -مع تّطوّر العلم- إلى أدوات فهم ووسائل هداية تتفاعل معها المكتشفات وتتجاوب معها المخترعات وتخضع لسلطانها الحقائق العلميّة المجرّدة: ((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فُصّلت: 53).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!