-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحوار .. نهاية حتمية لحل كل الأزمات

الشروق أونلاين
  • 1276
  • 0
الحوار .. نهاية حتمية لحل كل الأزمات
ح.م

يعرف العالم اليوم انتشارا غير مسبوق للحروب والأزمات وبؤر التوتر، وتعيش مختلف الدول اليوم تحولات عميقة في مختلف الأوساط، خاصة الاجتماعية منها، فلا يمر يوم إلا ونسمع عن مظاهرات واحتجاجات حول مختلف المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبين التعامل مع مطالب الشعوب بالهدوء أو استعمال القوة والعنف يطغى في الأخير أسلوب الحوار لحل جميع الأزمات والتوصل إلى إيجاد حلول ترضي الجميع من خلال تغليب المصلحة العامة والنظر للمستقبل حقنا للدماء، وربحا للوقت والجهد والمال.

وتتميز الجزائر في مراجعها وثقافتها وعقيدتها بمبدأ الحوار في حل المشاكل والأزمات والحروب وغيرها من الملفات المستعصية، ويعتبر “الحوار” مفهوما ومصطلحا كثير التداول في الجزائر حيث ينتشر على مستوى الأفراد والأسر والعائلات، وفي مختلف مناحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

يستعمل الجزائريون للتعبير عن الحوار الكثير من المرادفات والجمل والآيات القرآنية على غرار الآية 125 من سورة النحل التي ورد فيها “ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” ويقول الجزائريون بالعامية، “روح بالسياسة”، “بالعقل”،”أصبر شوية “،”شاور لي يعرف” ، “أرواح نتفاهمو”، كما لنا في “التاجماعت” بمنطقة القبائل، و”لجان الصلح” بمنطقة الشاوية “ولجان العقلاء” بالصحراء الجزائرية عِبر كثيرة في حل المشاكل والأزمات التي تحدث في مختلف مناطق الوطن من خلال تجميع المختلفين والتقريب فيما بينهم وإحداث الصلح، ودرء الفتنة.

ولا يُخفي الجزائريون تأثرهم بالدين، ومختلف الثقافات والأعراف في العمل بالحوار كوسيلة لحل الخلافات، والتقريب بين وجهات النظر وإقناع أطراف أخرى بالتي هي أحسن، والحوار ثقافة وروح تتشكل من مختلف المرجعيات التي ينشأ عليها الفرد.

والحوار حسب الكاتب محمد أبو خليف، هو مُناقشة الكلام بين الأشخاص بهدوء واحترام ودون تعصُّب لِرأيٍ مُعيّن أو عُنصريّة، وهو مَطلَبٌ من مَطالِب الحياة الأساسيّة؛ وعَن طريقه يتمّ التّواصل بين الأشخاص لِتبادُل الأفكار وفَهمِها.

ويُوظف الحِوار لِلكشف عن الحقيقة فَيَكشِف كلّ طرف من المُتحاورين ما خَفِيَ على الطّرف الآخر، والحِوار يُشبع حاجة الإنسان، ويَسمح له بِالتّواصل مع البيئة المُحيطة به، كما أنّه يساعد على التعرّف على وجهات النّظر المُختلفة للمُتحاورين.

ويبقى الحوار طريقة مثالية، لإيجاد الحلول المناسبة لمختلف الأزمات والمشاكل، بعيدا عن التصلب والتطرف وسوء النوايا، لتجاوز بعض الخلافات، والنظر للمستقبل وفقا لما يخدم الصالح العام، فالوصول إلى تقريب وجهات النظر يتطلب ضرورة التنازل.

وشهدت الجزائر الكثير من الأزمات والمراحل الحساسة في تاريخها، وكانت في كل مرة تنجح في تجاوز مشاكلها، من خلال لم الشمل والتوافق والتنازل من أجل تحقيق المصلحة العامة، وتفاديا للدخول في متاهات أو انزلاقات قد تؤدي إلى تهديد وحدة وسلامة الوطن، إذ تؤكد كل الحقب التاريخية وجود دسائس ومكائد للنيل من الجزائر بالنظر لمكانتها وتاريخها، ومواقفها.

واكتسبت الجزائر، ثقافة الحوار، عبر تراكمات كبيرة داخليا وخارجيا ساهمت في تأسيسها مختلف المراجع التي بنيت عليها الجزائر، والتي تتقاطع كلها في نشر قيم التسامح والإنسانية، حتى أن الكثير من الأزمات الدولية لجأت فيها القوى العظمى إلى الجزائر، من أجل إيجاد مخارج آمنة لملفات كادت أن تشعل فتيل حروب عالمية، أو إفناء مجموعات بشرية بسبب عقيدتها أو انتمائها الحضاري.

الجزائر مرجع عالمي للحوار

يذكر التاريخ العالمي دور الأمير عبد القادر في الشام، عندما تدخل لإنقاذ الآلاف من المسحيين في حربهم مع الدروز عام 1860، من خلال سعيه لطمس الفتن والدعوة إلى التعايش ونبذ الكراهية والأحقاد. حيث لعب دور الوسيط باتقان، وأطلق حوارا واسعا توصل فيه إلى عقد اتفاق يضمن حقوق الجميع، ويوقف نار الفتنة، وهو ما جعل العالم كله ينحني له، بيد أن الشام بأكملها تستند على جهوده لتشجيع تعايش الديانات والأعراق، ومختلف الطوائف المتواجدة هناك. وكان الأمير قد وضع أسس حوار الحضارات والأديان والثقافات كشعار عالميأ ومبدأ هام من أجل إحلال السلام والأمن لكل البشرية، وهو ما تضمنته مختلف المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية فيما بعد.

وأشاد الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقال مطول نشره بصحيفة “الأندبندنت”، أن الأمير عبد القادر مثال يقتدى به في نشر القيم السمحة لتعاليم الدين الإسلامي، وخاصة لدى سعيه لحماية غير المسلمين، مذكرا بجهوده في إنقاذ 15 ألف مسيحي من إبادة كانت وشيكة، واصفا إياه برجل “حوار وإقناع وسلام وإنسانية”.

كما سجلت الجزائر حضورها القوي، في حل إحدى أكبر ملفات احتجاز الرهائن أو ما يعرف بـ”أزمة رهائن إيران” التي حدثت بين إيران والولايات المتحدة، عندما اقتحمت مجموعة من الطلاب الإسلاميين في إيران السفارة الأمريكية بها سنة 1979 واحتجزت 52 أميركياً من العاملين في السفارة كرهائن لمدة 444 يوما، من 4 نوفمبر 1979 إلى 20 يناير 1981.

وقد جنبت الدبلوماسية الجزائرية العالم حربا عالمية كانت على وشك الاندلاع، مما جعل العالم يقف وقفة إجلال للدبلوماسية الجزائرية التي تمكنت بلغة الحوار من الوصول إلى حل يرضى الجميع.

وتحتفل الولايات المتحدة الأمريكية كل سنة، بجهود الجزائر في سبيل خدمة القيم الإنسانية، حيث دأبت سفارتها بالجزائر كل سنة على استضافة الدبلوماسية الجزائر، لشكرها على جولات الحوار المكوكية، التي قامت بها لطرق أبواب الحوار بين طهران وواشنطن، وقد اعترف نائب وزير الخارجية آنذاك، وران كريستوفر بحنكة الراحل محمد الصديق بن يحيى في حل الأزمة، وقدرته على الإقناع وبرودة أعصابه وحسن الإصغاء، وتقديم الرأي الذي يقدم الإنسانية على كل شيء.

ودفعت الجزائر ثمنا باهضا، في سبيل حل الأزمات وإقناع الدول بفوائد الحوار، حيث يتذكر العالم أجمع بالحادث المأساوي، الذي راح ضحيته وزير الخارجية محمد الصديق بن يحيى في ماي 1982، وهو في زيارة بين إيران والعراق لوقف حرب المدن التي اندلعت في 1980 بين طهران وبغداد، حيث تم قصف طائرته بصاروخ بين الحدود العراقية التركية، الأمر الذي أبكى العالم كله على رجل كان قدم حياته ثمنا لحل الأزمات الشائكة بموهبته في الحوار والتواصل.

وساهمت الجزائر أيضا في تشجيع إثيوبيا وأرتيريا للجلوس على طاولة المحادثات، وتغليب لغة الحوار، لإنهاء الحرب، وخلصت القضية إلى توقيع اتفاق السلام في سنة 2000 بالجزائر.

ولم تبخل الجزائر بمساعيها الحثيثة، لإرساء ثقافة الحوار في دولة مالي التي شهدت لسنوات طويلة انشقاقات وانقسامات، بين العديد من الفئات لتنتهي باتفاق سلام في الجزائر، بعد مفاوضات شاقة عام 2015.

كما لم تتوقف الجزائر، والى يومنا هذا على دعوة المغرب وجبهة البوليساريو، إلى الجلوس على طاولة الحوار والتفاوض من اجل إيجاد حلول للخروج من الأزمة التي يعيشها البلدين، لاسيما وأن الشعب الصحراوي يعاني الويلات جراء هذا النزاع المستمر.

وأثناء الأزمة الليبية، كانت الجزائر السباقة في دعوة الفرقاء الليبيين إلى ضرورة انتهاج سبل الحوار، لإنهاء الخلافات والانشقاقات والنظر للمستقبل لتجاوز المؤامرات التي تحاك في الخفاء لتقسيم بلدهم وتشريد شعبهه وتفقيره.

وقد أشادت الأمم المتحدة، في الكثير من المناسبات بدور الجزائر الرائد في احتضان مختلف جولات حوار الأطراف المتنازعة في إفريقيا، ومن مختلف دول العالم، معتبرة ذلك علامة جزائرية مسجلة.

وفي أحداث الربيع العربي كانت الجزائر مرجعا في الحوار، إذ سارعت الكثير من العواصم العربية إرسال مبعوثيها لاستشارتها وطلب خبرتها في تسيير الأزمات لتجنب أسوأ السيناريوهات، ما يؤكد مكانتها الدبلوماسية التي اكتسبتها منذ عقود طويلة، وقدرتها على فك شيفرات الأزمات بالحوار.

ومن أخطر الأزمات التي عملت الجزائر على تذليلها بالحوار، الصدمة النفطية التي حدثت في 2014 ، بعد تراجع أسعار النفط من 114 دولارا للبرميل إلى 32 دولارا، حيث توصلت إلى اتفاق وصف بالتاريخي في سبتمبر 2016 ، قررت من خلاله منظمة أوبك لأول مرة منذ عام 2008، على تسقيف إنتاجها النفطي لتحقيق التوازن في السوق العالمي.

وأقنعت الجزائر كذلك الدول المنتجة غير الأعضاء في “أوبك” ،بما في ذلك روسيا، بالاتفاقية من خلال خفض إجمالي إنتاجها بمقدار 600 ألف برميل يوميا.

والكثير لا يعرف أن سبب نجاح اتفاق الجزائر لإنقاذ أسعار النفط، هو قدرتها الدبلوماسية في إقناع وزراء السعودية وإيران للنفط، بالجلوس على طاولة واحدة، والتوقيع على الاتفاق، وكان هذا احتراما لمكانة الجزائر والثقة الكبيرة التي تضعها مختلف الدول في ثقافة الحوار الدبلوماسية الجزائرية، البعيدة كل البعد عن الحسابات الضيقة، أو والانحياز لطرف على حساب آخر، فضلا عن التفضيل الدائم للمصالح العليا المشتركة.

وكان اجتماع الجزائر وقرارته التاريخية، مكسبا كبيرا لشعوب الدول التي يعتمد اقتصادها على النفط، حيث تمكنت من إنقاذ الاقتصاديات والحفاظ على مناصب العمل، وضمان التمويل العمومي لمختلف المشاريع، لأن الصدمات البترولية عادة ما تولد آثارا خطيرة من خلال تسريح العمال، وفرض سياسات التقشف وخسارة الدول لسيادتها لفائدة المؤسسات المالية الكبرى، التي غالبا ما تدخلها في دوامات لا مخرج لها.

وأكد الأستاذ والإعلامي حكيم بوغرارة، أن الدبلوماسي المصري الراحل بطرس بطرس غالي خلال لقاء جمعه به في “جريدة الشعب” قبل سنوات، أكد أن الجزائر بلد الحوار، ويحظى بمكانة عالمية محترمة، بفضل سياستها المبنية على احترام سيادة الدول، والأعراف الدبلوماسية ودفاعها عن السلام، والدعوة لحل الأزمات عن طريق الحوار خدمة لمصالح الشعوب التي تتحمل تبعات الأزمات.

وأوضح بطرس غالي” أن الكثير من النخب والساسة والشخصيات في العالم التي التقى بها، أبدت إعجابها بالجزائر وقدرتها على حل الأزمات، مشيدين بدبلوماسييها الذين تركوا بصمات خالدة في تاريخ الدبلوماسية العالمية.

وقال الإعلامي حمزة محصول، إن حضوره قمة “أوبك” الاستثنائية في الجزائر سنة 2016 ، جعلته يقف على دور الجزائر كوسيط عالمي، في مجال الحوار وحل الأزمات، من خلال قدرتها على إقناع الكثير من ممثلي الدول في قمة الجزائر الاستثنائية على الجلوس على طاولة واحدة مثلما حدث مع السعودية وإيران، مشيرا إلى الورقة البيضاء التي منحها جل الدول للجزائر، لاتخاذ ما تراه مناسبا لإنقاذ سوق النفط العالمية.

بيان أول نوفمبر.. الحوار وسيلة للكفاح

يعترف العالم كله للجزائر بالدبلوماسية أو دبلوماسية الحوار، حتى مع العدو، وفي أحلك مراحل تاريخ الجزائر، ويؤكد هذا الأمر بيان أول نوفمبر الذي أدهش العالم بأسلوبه الممتنع، وتضمنه لدستور دولة بأكملها في كلمات معدودات، وما زاد في إعجاب العالم ببيان أول نوفمبر الذي اجتهدت النخب الجزائرية في إعداده، وفقا للمراجع التي يشترك فيها جميع الجزائريين، تضمنه فقرات فتحت باب الحوار والتفاوض مع فرنسا الاستعمارية، كخيار إنساني وسلمي، لتجنب إراقة المزيد من الدماء والخسائر.

و ورد في بيان أول نوفمبر ” في فقرة وسائل الكفاح ” ما يلي”… وفي الأخير، وتحاشي التأويلات الخاطئة وللتدليل على رغبتنا الحقيقة في السلم، وتحديد الخسائر البشرية وإراقة الدماء، فقد أعددنا للسلطات الفرنسية وثيقة مشرفة للمناقشة، إذا كانت هذه السلطات تحدوها النية الطيبة، وتعترف نهائيا للشعوب التي تستعمرها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها”.

كما ورد في إحدى الفقرات من البيان “فتح مفاوضات مع الممثلين المفوضين من طرف الشعب الجزائري على أسس الاعتراف بالسيادة الجزائرية وحدة لا تتجزأ.”

ويستشف من بيان أول نوفمبر تمسك الجزائر بالمواثيق والأعراف الدولية، التي تدعو للسلام واحترام حقوق وسيادة الدول حتى تتجنب الإكراه في توقيع الاتفاقيات والوصول إلى حلول دائمة، مع العمل على عدم إشعار أي طرف في الحوار بالنقص أو بالانتقام أو بالحيلة.

وعلق المؤرخ عامر رخيلة، أن فرنسا الاستعمارية بعد أن تلقت ردا موجعا عسكريا من الجزائر بعد اندلاع الثورة، كان بيان أول نوفمبر ومباشرة مفاوضات ايفيان والجلوس على طاولة الحوار مع جبهة التحرير الوطني، ضربة دبلوماسية أسقطت فرنسا وجعلتها تقتنع وتعترف بحقوق الجزائريين.

وبدوره المؤرخ لحسن زغيدي، المختص في تاريخ الحركة الوطنية أوضح أن الثورة الجزائرية ألهمت العباقرة والمستشرفين، من خلال بيان أول نوفمبر الذي كان جامعا شاملا ومستشرفا لكل مآلات الثورة وحرب التحرير، حيث وفق بين الكفاح المسلح وإمكانية الحوار والتفاوض مع العدو، وهو ما جعل العالم ينحني فيما بعد للجزائر احتراما على قدرتها في فرض الواقع وإجبار قادة فرنسا على قبول مبدّأ الحوار والمفاوضات رغم رهان “ديغول” على المراوغة والقوة العسكرية.

الحوار .. تأمين وأمان للجزائر

ظل الحوار ملازما الجزائر في كل مراحلها التاريخية خاصة في وقت الشدائد، فالكثير من المحطات التاريخية الصعبة تم تجاوزها في نهاية المطاف بالحوار.

فبداية الثورة الجزائرية في 1954 كانت صعبة جدا بعد الذي حدث في آخر اجتماع لحركة انتصار الحريات الديمقراطية والاختلافات والانشقاقات الكثيرة التي حدثت حول تفجير الثورة من عدمه، وانطلقت دعوات ومحاولات واسعة من عديد الشخصيات آنذاك للم الشمل وتقريب وجهات النظر بين الإخوة الفرقاء للالتفاف حول الثورة، وبيان أول نوفمبر، وقد أشار إليه الكثير من المؤرخين على غرار محمد حربي بان تلك دعوات الحوار لقيت صدى ايجابيا لدى الكثير من الأحزاب والشخصيات التي اقتنعت بالثورة، وانضمت فيما بعد تحت لواء “الجبهة” بين 1954 و 1956 ،الأمر الذي تحدث عنه الأستاذ الراحل زهير احدادن في إحدى المحاضرات التي ألقاها ب”يومية المجاهد” حيث أكد أن “الجبهة” لم تتوقف من إرسال مبعوثيها لكل الجزائريين لإقناعهم بالثورة، وبالابتعاد المخططات الاستعمارية الخبيثة التي كانت تهدف للتفرقة.

وسمحت خطوات الحوار مع مختلف الأحزاب التي كانت ناشطة آنذاك، من إنجاح تنظيم مؤتمر الصومام الذي مكن الثورة من تنظيم نفسها بعد جلسات طويلة ومريرة، تخللتها تحضيرات قبلية توجت بحوار وطني شمل كل النواحي للاتفاق على خارطة تنظيم جديد للثورة، ومن مخرجاته استحداث هيئات جديدة كالمجلس الوطني للثورة وغيرها من اللجان التي كان لها الأثر الايجابي فيما بعد، على تدويل القضية الجزائرية وإجبار الكثير من الدول على سماع صوتها، الأمر الذي “قلب” الطاولة على فرنسا الاستعمارية التي وجدت نفسها في وضع حرج جدا دفعها للمفاوضات والحوار مع “الجبهة” بدءا من 1956 وفي زمن حكومة “غيمولي” الاشتراكية، مثلما أكد عضو الجبهة في مفاوضات ايفيان الراحل “رضا مالك” في محاضرة ألقاها بمناسبة ذكرى اتفاقيات ايفيان بمقر جريدة “المجاهد”، أن “فرنسا أبدت استعداداها للحوار والتفاوض بعد الخسائر المادية والنفسية التي تعرضت لها على يد مجموعة من الوطنين والمخلصين، الذين ركعوا فرنسا الاستعمارية والحلف الأطلسي واجبروا “شارل ديغول” فيما بعد على الجلوس صاغرا في المفاوضات.

وبرزت قدرة الجزائريين وعبقريتهم في الحوار والمفاوضات، بمساومات فرنسا في فصل الصحراء عن الشمال، حيث تمكنوا عبر جلسات حوار طويلة وشاقة من نيل الاستقلال عبر كامل التراب الوطني.

وعرفت الجزائر الكثير من الأزمات الداخلية بعد الاستقلال، بسبب اختلاف الإيديولوجيات والتوجهات حول النهج الذي يجب أن تتبعه البلاد وعديد الملفات الأخرى في مجالات السياسية والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية. وكادت الأوضاع في العديد من المرات أن تنزلق لولا الدعوات للتعقل وتغليب لغة الحوار والحكمة فمن حرب الرمال سنة 1963، والانقلاب عام 1965، والمحاولة الانقلابية في 1967، وأزمة خلافة الرئيس الراحل هواري بومدين عام 1979، وترجيح الكفة للشاذلي بن جديد على الراحل محمد الصالح يحياوي وصولا إلى أحداث 05 أكتوبر 1988، و ما انجر عنها من تبعات خطيرة خاصة اندلاع موجة عنف وإرهاب أعمى في بداية التسعينات كاد يقضي على الجزائر.

وارتأينا في هذه المرحلة التركيز على مختلف الجهود التي بذلت للم شمل الجزائريين، وتجاوز آثار العشرية السوداء التي خلفت 250 ألف قتيل وخسائر بـ 25 مليار دولار، حيث برزت الكثير من الجهات التي رفضت التطرف والاستسلام لبعض الأفكار والتيارات الظلامية التي كانت بعيدة كل البعد عن ديننا الحنيف.

وبدأت دعوات الحوار من قبل شخصيات وطنية وحزبية ودينية لتجاوز تلك الخلافات التي أنجر عنها ارقاة الكثير من الدماء، ورغم صعوبة الأزمة وتعقيداتها، بدأت لغة الحوار تطفو للسطح بعقد ندوة الوفاق الوطني في جانفي 1994 ، حيث وفي عز تصاعد الأعمال الإرهابية فضلت الكثير من التيارات الوطنية التنازل عن كل شيء لإنقاذ الجزائر، وكبادرة أولى تم تعيين اليامين زروال رئيسا قبل تثبيت شرعيته بانتخابات رئاسية في 1995 ، وبعد عام فقط بدأت الاتصالات مع الشباب والفئات المغرر بها تلوح في الأفق سنة 1996، أذ تم العمل بما يسمى “قانون الرحمة” الذي كان بادرة لانفراج الأزمة الأمنية بعودة الكثير من المغرر بهم إلى أحضان المجتمع.

وتم إتباع تلك الخطوات بمبادرات الوئام المدني والمصالحة الوطنية الأمر الذي جعل الجزائر تطوي صفحة العشرية السوداء، باتفاق الجميع على الانخراط في مسعى إنقاذ الجزائر، وهو المبدأ الذي انطلق منه “الحراك” الذي انطلق في 22 فبراير 2019 بصورة مشرقة عن الجزائر منحت الأمل للجميع في بناء دولة عصرية بمجتمع متحضر وواع.

وبعد الصورة النمطية التي تم إلصاقها بالشعوب العربية والإسلامية المرتبطة بالإرهاب والعنف و”الحرقة”، وغيرها من الصفات المنبوذة، قدم الشعب الجزائري صورا مشرفة سلوكيات حضارية، في انتظار حل الأزمة عن طريق استكمال مسار الحوار الذي اتفق عليه الجميع كمبدأ، مع فتح المجال للاختلاف وإبداء الرأي لكن داخل حلقة الحوار الوطني، ويراهن الجميع على لغة الحوار التي تمكنت الجزائر من خلالها حل نزاعات عالمية ودولية عويصة، وهو ما يرشحها من خلال احترام مسيرتها نحو الحرية والديمقراطية إلى صناعة نموذج نجاح سيزيد ويعزز من ثقافة الحوار، وسيشجع هذا النموذج العديد من الدول التي تعيش بؤر توتر وأزمات داخلية أن تحذو حذو الحزائر، وأن تستلهم من سياساتها في الحوار لحل أزماتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!