-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الخبراء الفرنسيون.. مِنهُم وإليْهم!

الخبراء الفرنسيون.. مِنهُم وإليْهم!

هناك من يرى أن مشاكل التعليم عندنا سببه ما عُرف في سبعينيات القرن الماضي بـ”المدرسة الأساسية” التي قامت على عمل جزائري أصيل وحماس وطني فياض. بينما يرى المناهضون لتلك المدرسة أن مشاكلنا بدأت في مطلع هذا القرن بـ”إصلاحات بن بوزيد” التي اعتمدت على خبراء فرنسيين فرضوا رؤيتهم على مناهجنا المدرسية دون لمسة جزائرية واضحة. دعنا نتحدث عن مثال الرياضيات التي نلمّ ببعض جوانب ملفها، والتي يرى البعض أن تدريسها بلغ حدّ “الانهيار” في بلادنا.

علماء الرياضيات وخبراء تدريسها عاجزون!
في البداية، ما ينبغي ملاحظته، بكل موضوعية وبدون مزايدات، أن معضلة تدريس الرياضيات لتلميذ اليوم لم تُحلّ في أيّ بلد من بلدان العالم المتقدم والمتخلف إلى حدّ هذه الساعة. والكل يحاول ويجرّب ويتعثّر ويصيب ويخطئ… وهو عاجز عن الاهتداء إلى السبيل الأمثل. فكبار علماء الرياضيات في العالم تفطّنوا قبل غيرهم إلى المسلك الوعر الذي يمرّ به تدريس هذه المادة منذ نحو 4 عقود دون التمكّن من وضع اليد على الحلّ الأنسب رغم مئات المؤتمرات والاختبارات واللقاءات والدراسات لتحسين الوضع… وهذه الجهود لا زالت على قدم وساق.
ذلك هو واقع تدريس الرياضيات اليوم. وما سرّ المشكل؟ هناك جملة من الأسباب، ويمكن اختصار السبب الرئيسي الظاهر للعيان فيما يلي : تلميذ الأمس الذي لم تكن بحوزته أي آلة (لا حاسبة، ولا حاسوب، ولا لوحة إلكترونية، ولا هاتف ذكي، ولا إنترنت، ولا وسائل تواصل إلكترونية…) فضلا عن شحّ وسائل اللهو الأخرى. ولذا كان يقضي مدة أطول أمام كراسه وكتابه الورقي دارسًا ومتأملاً دون ملل في تمارين الرياضيات ومسائلها بالغٌ ما بلغت صعوبتها، وذاك ما يجب أن يكون للتعمق في المفاهيم الرياضياتية في كل زمان ومكان. ومن ثمّ يتعلّم التلميذ من أخطائه المتكررة أكثر مما يتعلم من محاولاته الصائبة.
وكان المنهاج الدراسي آنذاك يركّز أكثر على جانب تطوير الفكر الناقد والمحلل، وعلى التمييز المنطقي بين الصواب والخطأ والاستدلال. ولم يكن يهتم كثيرا -في باب تكوين فكر التلميذ- بالعلاقات الجاهزة للاستعمال التي يكفي فيها تعويض س بـ ص للحصول على النتائج المرجوّة. ثم انقلب هذا الوضع، وصار وقت التلميذ لا يسعه ليطيل التفكير والتحليل والمثابرة في البحث عن حلول التمارين لأنه محاط بما يلهيه ويغنيه عن بذل الجهد… فَمال ميلة واحدة إلى الجاهز والمُعلّب من الرياضيات وفَقَد بذلك لبّ هذا العلم واحتفظ بقشوره!
وانساق جلّ واضعي السياسة التربوية في مختلف البلدان نحو هذا الاتجاه المؤلم، وراحوا يكيّفون البرامج بما يتيح شدّ الانتباه بالمُسلِّي من الرياضيات –محاولين وضعها في هذا القالب حتى لو خلت من عنصر تسلية- وذلك للابتعاد عما يزعج التلميذ وبنفّره، مثل التعمق في الأفكار وسلامة الاستدلال المنطقي، إلخ. هذا ما حدث في كل البلدان، والجزائر ليست استثناءً.
وفي هذا السياق، ولركوب هذه الموجة، أتت وزارة التربية في مطلع هذا القرن بفريق خبراء من فرنسا ليرشدونا إلى الطريق الذي انتهجوه لنقلّدهم في ذلك. وكذلك كان الحال. والغريب خلال تلك الفترة، أن كبار علماء الرياضيات في فرنسا ذاتها كانوا يندّدون أشدّ التنديد بالمناهج المتّبعة في بلادهم منبّهين إلى أنها ستؤدي إلى كوارث. يكفي أن نذكر من بين هؤلاء العلماء لورنت لافورغ Laurent Lafforgue (الحاصل على ميدالية فيلدز عام 2002 وعضو أكاديمية العلوم)، وجون بول دوماييه Jean-Paul De Mailly (عضو أكاديمية العلوم الحاصل على جوائز عديدة)، وكبير خبراء تدريس الرياضيات أندريه روفيز André Revuz (1914-2008) وآخرون كثيرون.

رئيسة الوفد الفرنسي… لم تَعدْ!
عندما أوشك الفريق الفرنسي عام 2002 -برئاسة المتقاعدة، أستاذة الرياضيات، كلود كوميتي Comiti Claude- على الانتهاء من مهمته لدى وزارة التربية الجزائرية، أراد أن “يصلح” أيضا حال المدارس العليا للأساتذة في الجزائر. وكانت هذه المدارس آنذاك قيْد وضع مناهجها الجديدة المشتركة من قبل أستاذتها دون سواهم. نلاحظ أن تلك المناهج هي السارية إلى اليوم في هذه المؤسسات.
وفي أول لقاء بمدرسة القبة مع رئيسة الوفد الفرنسي، كانت تتباهي بكبرياء لا تطاق، بعملها مع وزارة التربية، بل لم تتردد في التنديد بمن نعتبره نحن أفضل عنصر في الفريق الجزائري من وزارة التربية آنذاك تعاملت معه السيدة كوميتي، وهو المفتش رشيد أمقران. يتميّز هذا الرجل بسعة معارفه الرياضياتية ودفاعه عن أفكاره في مجال التدريس والتعليمية، ولا يتقبّل الرأي الآخر بسهولة ما لم يأت صاحبه بحجة أقوى من حجته. هذا الرجل، قالت لنا عنه السيدة كوميتي خلال الاجتماع: “تصورّوا أننا لم نستطع العمل حتى غاب عنا السيد رشيد أمقران لإصابته بمرض”! والواقع الذي فهمناه بعد ذلك هو أن وزارة التربية قامت آنذاك بإبعاده من الفريق الجزائري تفاديا لغضب السيدة كوميتي، وقيل لها إنه مريض لتبرير غيابه… وما هو بمريض بل المرضى هم مسؤولونا الذين تصرفوا بهذه الطريقة!
في تلك الجلسة بمؤسستنا، نبّهنا السيدة كوميتي إلى أن هذا الإصلاح لمناهج الرياضيات (والمقترح أيضا على الجزائر) يندّد به كبار علماء فرنسا المشار إليهم آنفا. فكيف يعتبر إصلاحا؟ فأجابت بلهجة الآمر الناهي: “لم يندّدوا أبدا بذلك”! ثم لما قدّمنا لها نصوص التنديد الموثقة كتابيا عبر البريد الإلكتروني بعد انقضاء الاجتماع، ردّت : “فعلا لقد كنت متسرّعة في إجابتي”!
كيف لم تكن تعلم السيدة كوميتي ذلك والأستاذ جون بول دوماييه “دقّ ناقوس الخطر” (حسب تعبيره) في تقرير بعث به آنذاك إلى رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس حكومته وإلى عدد كبير من المسؤولين والمهتمين في فرنسا؟!
ومما يقوله دوماييه في هذا التقرير : “لم تعد بلادنا تكوّن عددًا كافيًا من العلميين في عدد من القطاعات الأساسية… وهذا ينطبق أيضا على شركائنا الأوروبيين الرئيسيين. وفي الوقت نفسه، يواصل مستوى الطلاب الذين يتأهّبون لامتهان التعليم تدهوره. ومن المعروف أن نجاح المترشحين في مسابقات التأهيل والتبريز… تمّ على أساس علامات سيئة للغاية… وهذا الاتجاه التنازلي في المستوى يزداد حدّة سنة بعد سنة. هناك خطر كبير للغاية محدق بنا يتمثل في أن المدرّسين الشباب لن يكونوا قادرين على التحكم في المادة التي يدرّسونها، سيكونون فاقدين لعنصريْ الاستقلالية والقدرة على الحكم اللازميْن لممارسة مهنة التدريس”. ثم يواصل بنفس الأسلوب واصفا مستوى التلميذ اليوم والمناهج الدراسية مقارنة بما كان عليه الحال بالأمس.
وعَقّب على هذا التقرير الأستاذ أندريه روفيز قائلا : “يجب أن نشكر الأستاذ دوماييه على صرخاته التحذيرية. نعم، الوضع خطير. وفضلا عن ذلك، فإن المشاكل التي يطرحها بالغة التعقيد. ولهذا السبب أعتقد أن التعبئة الفكرية الواسعة ضرورية”. أما موقف لورنت لافورغ فحدث عنه ولا حرج. فقد نشر صرخة لا مثيل لها حول مناهج الرياضيات في فرنسا بعد أن عيّنه الرئيس شيراك في لجنة إصلاح وطنية. وكان ردّ جاك شيراك على صرخة لافورغ عنيفة حيث أقاله من عضوية اللجنة بعد أيام معدودات من تعيينه.
نلاحظ على الرغم من أن المناهج الفرنسية اتبعت الطريق الذي سلكته السيدة كوميتي فإن فرنسا تحتلّ المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة في مجال البحث الرياضياتي. وهذا ليس لأن “مدرسة كوميتي” تجيد التكوين بل لأن سياسة حكومتها تشجع إلى أقصى الحدود هجرة الأدمغة ونوابغ الشباب من البلدان التي “انهارت” منظوماتها التربوية!
الأمر واضح بالنسبة للبلدان المتقدمة : فليست هذه المنافسات العالمية أو تلك في شتى العلوم والمؤسسات المكوّنة للنخب في بلدان العالم الثالث -التي يدعمها الغرب بكل قواه- سوى “مصيدة” لتهريب نوابغ “الحرّاقة” في العلوم!
أما اللقاء الثاني في مدرسة القبة الذي كان مبرمجا بعد اللقاء الأول الذي تمّ عام 2002 مع السيدة كوميتي ووفدها المُصلح فشاءت الأقدار ألا يتمّ، إذ بسبب الأمطار الغزيرة المتهاطلة ليلا، انقلبت المركبة التي كانت تنقل ذلك الوفد في الطريق بين مطار الجزائر العاصمة والفندق فقضى بعض الأعضاء ليلتهم في المستشفى، واضطر الوضع الصحي للسيدة كوميتي إلى العودة إلى فرنسا للعلاج في فجر اليوم الموالي. ولذا لم تخضع مناهج المدارس العليا للأساتذة إلى إصلاح هذه السيدة.
في الختام نقول إن مناهج مؤسساتنا التعليمية في أمس الحاجة إلى الإصلاح الذي يدعو إليه جون بول دوماييه ومن على شاكلته… وليس للإصلاح الذي أنجزته السيدة كوميتي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • merghenis

    شكرا للأستاذ سعدالله على ما أفادنا به. وتحية محترمة للمفتش رشيد أمقران، نتمنى أن يحفظه الله من كل مكروه....أوافق من يطلب منع تلاميذ الإبتدائ من استعمال الآلة الحاسبة في القسم كما يطلب من المعلمين أكثر صرامة مع التلاميذ ليحفظوا جداول الضرب.هذا لأن تلاميذ الرابعة متوسط لا زال أغلبتهم لا يعرفونها .

  • محمد مشيد

    هل انقلبت السيارة بفعل فاعل لا تقل شاءت الاقدار الاستاذ فمشيئة الله غالبة

  • خالد سعودي جامعة خنشلة

    العمل ليس مجرد تشريفٍ ولا هو منصبٌ للمفاخرة، بل هو تكليفٌ وأمانة، وأنتم أيها الأستاذ الفاضل، خالد سعد الله، قد أثبتم في كل المناسبات، بالوجه الشرعي أنكم بقدر المسؤولية والأمانة، وأنكم خير من تولى المناصب، فشكراً لكم على جهودكم الرائعة، من أجل الحفاظ على كل ما يشجع تعليم علوم الرياضيات في الجزائر و الوقوف أمام من يحاول يشوهها ...

  • محفوظ

    نعم مشكلة الجزائر تكمن في فرنسا التي لازالت تتحكم في كل سياسات بلدنا، وهذا طبعا بدعم ومساعدت أبناءها الذين يحبون فرنسا أكثر من الفرنسيين ...هؤلاء مكنتهم فرنسا على الإستلاء على كل القطاعات وإفساد كل محاولت نهوض، وتهريب خيرات الجزائر إلى أسيادهم،

  • خالد سعودي جامعة خنشلة

    العمل ليس مجرد تشريفٍ ولا هو منصبٌ للمفاخرة، بل هو تكليفٌ وأمانة، وأنتم أيها الأستاذ الفاضل، خالد سعد الله، قد أثبتم في كل المناسبات، بالوجه الشرعي أنكم بقدر المسؤولية والأمانة، وأنكم خير من تولى المناصب، فشكراً لكم على جهودكم الرائعة، من أجل الحفاظ على كل ما يشجع تعليم علوم الرياضيات في الجزائر و الوقوف أمام من يحاول يشوهها ...

  • الطاهر زرزايحي

    شكرا على الافادة و اثراء الموضوع. اريد ان اعرف المعيار الذي رتبت به فرنسا ثانية في مجال البحث الرياضياتي. تحياتي

  • أستاذ

    لتنمية ذكاء النلميد لابد من منع الآلة الحاسبة في الابتدائي لأن الرياضيات رياضة العقل وليس استخدام للأجهزة التكنولوجية من الة حاسبة وكمبيوتر و و عندما يصل هذا التلميذ الى المتوسط والثانوي يصبح قادرا على فهم الرياضيات والبرهنة والاستدلال هكذا تفوقنا نحن جيل 70 في الرياضيات