الدرس الليبي
بغض النظر عما يجري اليوم في ليبيا وعما إذا كانت الثورة حقيقية أم مزيفة وإذا كانت ستنجح أم ستفشل وماذا سيكون مستقبل ومصير هذا البلد الجار والشقيق، فإن الشيء الوحيد الثابت والحقيقي حتى الآن هو أن الأحداث قد كشفت عن دروسها وعبرها حتى قبل أن تنتهي ويتبين خيطها الأبيض من خيطها الأسود.
-
وأبرز هذه الدروس والعبر على الإطلاق هي أن الغرب وأمريكا وأوربا بالتحديد، يتحكم في مكان ما ولو بنسب قليلة ومتفاوتة، في خيوط هذه الثورات التي أصبحت تسمى الثورات العربية والتي ينتظر ألا تستثن بلدا من هذه البلدان ولو بوسائل وخسائر متفاوتة وبنتائج مختلفة.
-
لقد رأينا في الحالة التونسية والحالة المصرية والحالة اليمنية كيف وقف الغرب ويقف موقف المتفرج المتكالب ليس في موقفه من الترقب أو القلق غير ما يتعلق بمصالح وكالات السفر الغربية ومصير الأمن الإسرائيلي وإتفاقيات السلام في الحالة المصرية وهو الخوف الذي تبدد بمجرد إعلان العسكر في مصر احترام كل ما أبرم من إتفاقيات بين مصر وإسرائيل واستتباب الأمن في هذا البلد للجيش ولبقايا نظام حسني مبارك الضامن لهذه الإتفاقيات والواقف ضد وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم بأي طريقة كانت.
-
أما في الحالة الليبية وعلى الرغم من أن الثورة مازالت مجرد إرهاصات فنرى كيف يستبق هذا الغرب الأحداث ويضع في حسبانه كل الإحتمالات بما فيها إحتمال فشل الثورة وانقلاب الأوضاع لصالح معمر القذافي وأنصاره على الرغم من أن كل شيء انتهى ولن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أسبوع، فتنصب قيادات الأركان المشتركة وتكليف فرنسا وإيطاليا رغما عنهما وبالرغم من الصداقة المتينة التي تربط القذافي ببرليسكوني، لأن المصالح الحيوية الأمريكية والأوروبية تتطلب ذلك، بفرض حصار جوي على التراب الليبي بدعوى تأمين إجلاء الرعايا الأجانب ومنع قصف الطيران الليبي للمتظاهرين، وتجند كل الإمكانات وتدرس كل السبل والوسائل لضمان تدفق النفط الليبي العزيز على الغرب بجودته ونوعيته الرفيعة لخلوه من الكبريت وقربه من مراكز الاستهلاك الأروبية، وهذا ما لم يحدث مع الثورة التونسية أو الثورة المصرية ولا يحدث مع الثورة في اليمن، ولكنه يحدث إلى حد ما مع الثورة في البحرين التي تعامل بقدر ما لها من نفط وغاز ومكانة استراتيجية وعلاقة مع إيران وسيحدث كذلك مع الثورات القادمة، لا محالة، في بقية البلدان العربية النفطية.
-
والمشكل في كل هذا أنه لا الشعوب العربية ولا حكامها المطالبون بالرحيل -والذين يجب أن يرحلوا جميعا وحالا- لا يعون الرهانات الحقيقية لما يجري من حولهم.. الشعوب تبدو وكأنها تمارس الثورة من أجل الثورة أو من أجل رحيل النظام القائم في أحسن الأحوال، كما أنه وعلى الرغم من الطابع العربي الشامل لهذه الثورات تبدو وكأنها محصورة في نطاق قطري ضيق لا تراعي العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية المشتركة، خاصة في مواجهة الكيان اليهودي والدولة الاسرائيلية التي تمثل أكبر عائق يكبل تطور هذه الشعوب ويمنع عنها حتى التطلع إلى المستقبل بحكم أن هذا الكيان أصبح بعد الغرب الضامن لاستقرار الحكام العرب في مناصبهم حتى أصبح هو مصدر شرعيتهم السياسية في بلدانهم وعلى شعوبهم. والحكام العرب لم يفهموا حتى الآن أن هذه الثورات هي في جزء ولو بسيط منها رغبة للغرب في تغييرهم والتضحية بهم أو رميهم كما ترمى الخرق البالية التي لم تعد تنفع في رد القر أو الحر.
-
وهذا فإن ما بقي من الحكام على الساحة اليوم لا بد أن يكون مصيرهم هو مصير بن علي في تونس ومبارك في مصر إن بإرادة الثورات الداخلية وإن بإرادة الغرب وقراره، وبقي على هذه الثورات والشعوب أن تعي ضرورة الخروج من الدائرة الضيقة ومواجهة العدو المشترك والمصير المشترك، وإلا ما معنى أن تقوم هذه الثورات أصلا وتستهلك كل هذه الأرواح وهذه الدماء؟.