-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدكتور أحمد طالب يتذكر

الدكتور أحمد طالب يتذكر

أصدر الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ، الوزير الأسبق والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية، الجزء الرابع من مذكراته، ولأنني لم أحصل بعدُ عليها أعيد نشر بعض ما كنت كتبته عند صدور الجزء الثالث، مسجلا تقديري لجهود الدكتور طالب في الكتابة، راجيا المولى عز وجلّ أن يكون هذا الجهد مرضا معديا لبقية القيادات، وأنتظر الكتاب الرابع لأعيد تسجيل تقديري للوزير المتميز.

والكتاب ترجمة جيدة لمذكرات سي أحمد بالفرنسية، حيث أنه، برغم بلاغته في استعمال اللغة العربية، يقصر كتاباته فيما أعرف على استعمال لغة فولتير وموليير، وسيكتشف القارئُ المُتمعّنُ الأصلَ الفرنسي في تعبيرات كثيرة، برغم حرص الترجمة على الموازنة بين صدق التعبير وجمال العبارة.

و “مذكرات جزائري” صدرت بهذا العنوان الذي أريدَ متواضعا ليَدخل إلى القلوب ببساطة، والجزء الثالث من نحو 700 صفحة، وهو استعراض شبه حصري لنشاطات المؤلف عبر مراحل زمنية متتالية، وهي نشاطات بالغة التنوع والثراء والفعالية، حرص المؤلف في استعراضها على أمر يهمله أو يغفل عنه كتاب كثيرون، وهو تسجيل تواريخ الأحداث، بحيث بدا أنه اعتمد على تقارير نهاية مهمة أو برقيات لوكالة الأنباء الجزائرية وما نشر عنها ومنها في الصحف الوطنية.

والكتاب ردّ عملي على الكسالى الذين لا يكتبون، ثم يتهمون من يتحمل عبء الكتابة بالذاتية بل وبالنرجسية، في حين أن الحديث بصيغة المتكلم هو جزء أساسي من أي شهادة يقدم بها الكاتب ما عاشه من أحداث، ولم يعرف استعمال صيغة الشخص الثالث بالشكل الدائم إلا في قصص أغاثا كريستي وعلى لسان بطلها البلجيكي هيركول بوارو، كنوع من الغرور والتعالي.

وتتسم مذكرات طالب بالوفاء للرئيس هواري بو مدين، فهو يقول عنه: “على امتداد 13 سنة صاحبتُ شخصية استطاعت أن تكوّن نفسها، خلف ملامح قاسية ومتقشفة، بصبر وأناة، عبر اتصالها أولا بسهول “قالمة” الوعرة، ثم بمركز العلم والوطنية في قسنطينة، فالقاهرة التي تشبع فيها بالعروبة والروح الأزهرية (..) لقد هامَ بالجزائر وتعلق بالعدالة الاجتماعية وعاش بسيطا مثالا في النزاهة، لا يفرق في الشأن العام بين القريب والبعيد، فلم يقبل أن يدنو ذووه من السلطة أو يستفيدوا منها، وعندما جاء أجله غادر هذه الدنيا دون ذرية أو ثروة (..) إن بو مدين لم يكن الزعيم الوحيد في العالم الذي تعرض لمعاملة غير لائقة بعد وفاته (..) غير أننا، في هذه الحالة بالذات، لسنا أمام مسألة بسيطة تنحصر في كيفية التعامل مع إرث أو ضمان خلافة سياسية أو تغيير نظام، فالعملية أبعد من ذلك لأن أصحابها يستهدفون محو ماضٍ بأكمله، وسياسة بعينها” (ج2/ ص والواقع أن هذا الكلمات هي ردّ مُفحم على بعض من يدّعون أن طالب كان يحمل للرئيس الراحل بعض البُغض، بخلفية تتعلق ببعض صراعات السلطة أو تداعياتها (لجنة الميثاق الوطني في 1975 ومغادرة الحكومة في 1977) والحجم الضخم للمذكرات يجعل من الصعب على القارئ المتعجل استيعاب كل الصفحات، وقد يُحسّ أنها خلت من أدوار شخصيات كانت جزءا من المراحل التي تناولها الكاتب، ولا أذكر أنني قرأت أسماء محمد أمير وإسماعيل حمداني وحاج يعلا وأحمد حوحات وعبد المجيد أعلاهم وآخرين….وربما تمت الإشارة للبعض بشكل عارض قد يتناقض مع أهمية دورهم آنذاك.

ولعل هذا هو ما جعل المؤلف، وهو يتحدث عن حاجة القائد الناجح إلى فريق عمل كفء، يقول بكل نزاهة: (وإذا تبين أن أسماء بعض هؤلاء الجنود البناة قد سقطت فذلك لم يكن عن قصد وإنما لخلل في الذاكرة) ( ج2/ ص11) وهو ما لا أجزم بأنه تبرير كافٍ لعدم ذكر بعض الأسماء.

ولا بد من التذكير بأن قيادة الإعلام في السبعينيات تحملتها أربعة مؤسسات تكامل أداؤها، أولها وزارة الإعلام والثقافة، ويتولاها الدكتور طالب، والثانية لجنة الإعلام والتوجيه بالحزب ويرأسها محمد الشريف مساعدية، ثم المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي ويقودها الرائد (آنذاك) الهاشمي حجريس، وأخيرا مديرية الإعلام بالرئاسة التي كنت أديرها بصفتي مستشارا لهذا القطاع.

ولعلي أستكملُ هذا التعليق البرقي بالإشارة لوقائع كنتُ جزءا منها ورأيت أنها لم تأخذ حقها كاملا، وآمل أن يتداركها الكاتب في الطبعات التالية، حيث أن نقصا في استكمال صورة الحدث قد يؤثر على النظرة الإجمالية لهذا العمل المتميز.

ومن الأحداث التي أعنيها خطاب الرئيس هواري بو مدين التاريخي في مؤتمر القمة الإسلامية بباكستان، حيث قال المؤلف من أن الرئيس “تخلى” عن الخطاب الذي أعدّ سلفا.لكنه لم يُوضّح سبب التخلّي.

واقع الأمر، فيما أعرفه، أن الخطاب الرسمي الدّسِم، الذي أعدته مجموعة أتصور أن طالب كان من بين أعضائها، بدا للرئيس شحنة من البلاغة الديبلوماسية التي أراد تجنبها في حديثه لقادة المسلمين، ممن كان يخشى أن يُلوّث أفكارَهم تزايدُ وارداتِ النفط وتجاهلُ ما تعانيه دول إسلامية كثيرة من سوء الحال، ومن هنا ارتجل الرئيس خطابا رائعا تحدث فيه بتناغم هائل بين العاطفة والعقل.

وتولت مجموعة مديرية الإعلام بالرئاسة إعداد النص الرسمي انطلاقا من التسجيل الصوتي، وقمت شخصيا بإعداد النص النهائي للخطاب، وخلافا لبعض ما قيل في المذكرات، لم يتدخل في عملية الإعداد النهائي للنص الرسمي أي فرد من خارج المديرية، بمن في ذلك المرحوم مولود قاسم.

وكان الدكتور طالب قد زارنا في مقر إقامتنا في لاهور ونحن نعدّ الخطاب، وبدا مرهقا، فعرضت عليه أن يستريح في غرفتي، وعند استيقاظه من النوم كان أول من أطلع على النص المُعدّ، بعد أن أكمل سكرتيري جبايلي طبعه على الآلة الكاتبة، وسلمته بنفسي نسختين، إحداهما للرئيس.

ولقد أردت بهذا التوضيح أن أؤكد مسؤوليتي الكاملة عن أي نقد يُوجّه للنص الرسمي الذي نُشر من الخطاب، حيث كنت حذفتُ جملة يقول الرئيس فيها:( لن أدعو الناس لدخول الجنة وبطونهم جائعة) وخشيت أن يُساء تأويل التعبير من قبل بعض المتأسلمين (وهو ما حدث فعلا عندما أذيع النص المتلفز كاملا انطلاقا من التسجيل الباكستاني).

ولم أستشر أحدا فيما “ارتكبته”، بمن فيهم الرئيس نفسه، حيث تصورتُ أنني أعرف رأيه، الذي أكده طالب عندما روى مقولة بو مدين: ( إنني إذ أنظر إلى هذه الأفواج من المؤمنين أتساءل ما إذا كان الأمر سينتهي يوما بهذه الجموع الإسلامية إلى أن تعثر على رجال أو حركات تقودها نحو تحقيق السعادتين في الدنيا والآخرة، أو أنها ستكون فريسة للمجانين أو المشعوذين)

ولم يصلني أي تعليق سلبي من الرئيس قبل حفل العشاء الرسمي، فأمرتُ بتوزيع النص، بعد أن ترجمَه محمد عبد اللطيف إلى الفرنسية ومحمد طاع الله إلى الإنجليزية.

وعلي هنا أن أوضح أمرا أخشى أن يؤدي إلى سوء فهمه استعمال تعبير الارتجال عند الحديث عن بعض خطب الرئيس، لأن واقع الأمر أنه لا مكان للارتجال في أي إنجاز يتم على أعلى مستويات الدولة، طبقا لما كنت عشته شخصيا خصوصا في السبعينيات.

وتعبير الخطاب المرتجل يعني أن الرئيس لا يقرأ نصا موجودا أمامه، كما حدث في الأمم المتحدة مثلا، ولكنه يعتمد في خطابه على نقاط سبق أن أعدها بنفسها، وتشكل هيكل الخطاب وتسلسل فقراته، وهو يضعها أمامه ويلقي عليها بين الحين والحين نظرة سريعة ليطمئن أنه يسير على الطريق الذي حددها منذ البداية.

وبمناسبة الخطب، كنت أتمنى أن يخصص طالب حيزا لاستعراض خطاب الرئيس بو مدين في دمشق سبتمبر 1978 عن التوازن الإستراتيجي مع العدوّ، والذي كان استعراضا رائعا قدمه الرئيس متغلبا على مرضه الذي لم نكن نعرف عنه شيئا، والذي أجهز عليه في نهاية العام.

والواقع أن حجم المذكرات الكبير والاعتماد أحيانا على الذاكرة كان لا بد من أن يؤدي إلى بعض الثغرات، كحديث الدكتور عن تكليفه بإعداد خطاب الأمة الذي يلقيه الرئيس الشاذلي بن جديد أمام المجلس الشعبي الوطني في مارس 1979 (ج 3/ص 42).

والذي حدث هو أن الرئيس لم يكن مُعَدّا أو مستعدا لإلقاء خطاب في الدورة الربيعية، واتفقتُ معه على أن يؤجل الخطاب إلى الدورة الخريفية، وهو ما حدث بالفعل حيث ألقى الرئيس الخطاب في شهر أكتوبر، وتكفل طالب بكتابة الجزء الدولي من الخطاب، وكان إثراء متميزا ما زلت أذكر جملته الافتتاحية التي تقول: كان 1979 عام انتصار الحقائق على الأكاذيب، بينما احتكرتُ أنا الجزء الوطني من الخطاب، وهو ما قمت به بعد ذلك بالنسبة للنصوص الكاملة لخطب الأمة الأربعة.

ويبقى أن طالب بذل في كتابة مذكراته جهدا مشكورا، كان أهم من سبقه إليه المرحوم أحمد توفيق المدني بمذكراته “حياة كفاح” ذات الأجزاء الثلاثة، وآمل أن تجد من مجموع السياسيين والدبلوماسيين التفاعل الإيجابي الذي يخرج بنا من وضعية ركود الفكر السياسي التي نعرفها في العشريات الأخيرة.

فطالب رصيد وطني هامّ، وأنا أشعر بحسرة كبيرة لأن الوطن لم يستفد في العشرية الأخيرة من كفاءة رجل بحجمه، خصوصا فيما يتعلق بتنظيمات حزب جبهة التحرير الوطني أو بتسيير بعض المؤسسات الوطنية المركزية، وهو ما كنت قلته عندما سجلتُ رفضي لمنطق انسحاب المرشحين للانتخابات الرئاسية في 1999، والذي ربما كان وراء عملية التهميش.

ويبقى لطالب فضل المجتهدين

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!