-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدكتور سعد الله: علّامة الجزائر وعلامتها

التهامي مجوري
  • 5669
  • 0
الدكتور سعد الله: علّامة الجزائر وعلامتها

عندما لجأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى القاهرة في بداية الخمسينيات، قدمه الناس إلى المصريين بلقب “الشيخ الإبراهيمي علَّامة الجزائر”، فعقب رحمه الله على هذا اللقب بقوله أنا لست علَّامة الجزائر، وإنما علامتها وعلامة رفع لا علامة خفض. وأرى بهذه المناسبة أن هذا الوصف ينطبق على الأستاذ سعد الله تماما؛ بل هو علَّامة الجزائر وعلامتها.

لم أعرف الدكتور سعد الله في الجامعة لأنني عصامي، ولم اعرفه زميلا؛ لأنني لم أشركه عملا أكاديميا أو غيره من أنشطته العلمية المشهودة في العالم وليس في الجزائر فحسب، ولم أعرفه قرينا لأنه في سن والدي، وإنما عرفته في معترك الحياة، كقارئ جاد متعلق بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، وجد ضالته في كاتب جاد مرتبط بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، يريد إيصالها للأجيال قبل أن يطلبوها.

تعرفت عن الدكتور سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة موضوعه الثوري الرائعالحاج ديكرت، المنشور في جريدة الشعب، وقبل هذا التاريخ لم أكن أعرف من هو سعد الله؟ فهذا المقال قد هزني كما هز الكثير من أبناء الجزائر من الشاعرين  بالاستقلال المنقوص، ومنذ عرفته لم تنقطع صلتي به، مهاتفة ومعايدة واطمئنان على صحته، وقبل ذلك وبعده قراءة كل ما يصدر من مؤلفاته بداخل الوطن وخارجه.

ثم كان مقالالحاج ديكارت”  متبوعا بمقاله الأليم أزمة ثقافةوهو المقال المنشور أيضا في جريدة الشعب، الذي اشتكى فيه إلى الله سرقة حقيبته التي كانت تحتوي على فصلين من جزء من أجزاء كتابه الحركة الوطنية، وبطاقات مادة تاريخ الجزائر الثقافي، في مطار من مطارات بريطانيا، حيث كان الرجل طوال السنة في الجزائر يبحث ويقرأ ويدوّن، وعندما تحين فرصة الخروج إلى الخارج وإلى حيث الجو المناسب للكتابة؛لأن الكتابة في الجزائر معجزةعلى حد قوله، يغتنمها في إنجاز ما اكتملت مادته مما جمع.. فسرقت منه الحقيبة بما فيها، ولم يتهم أحدا بعينه يومها، ولكن من قرأ ذلك المقال يحس أنه يتهم جهة ما معادية للجزائر وللثقافة الجزائرية سواء من داخل البلاد او من خارجها؛ لأن هذه السرقة وقعت في مرحلة كانت الجزائر تمر بموجة من التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية، فكان يومها مشروع مراجعة الميثاق الوطني، وموجة التفتح الفني، والانفتاح الإعلامي عبر تنشيط الصوت المعارض من خلال وسائل الإعلام الرسمي، الجرائد والإذاعة والتلفزيون، والتي توجت بعد ذلك بأحداث أكتوبر 1988 المعروفة.

فمقال الحاج ديكارت إلى جانب نكبة ثقافة، لم يكونا معزولين عن معارك أخرى للأستاذ في الظل كانت بين سعد الله وخصومه الطبيعيين، ويظهر ذلك في قصته مع المركز الثقافي الجزائري في فرنسا الذي يمثل دولةمستقلة عن الجزائر في توجهه، وإلى مشكلته مع جريدة الجزائر الأحداث الأسبوعية الناطقة بالفرنسية Algérie Actualité، التي أرسل إليها بمقال يرد فيه على قضية لا أتذكرها الآن، ولم تنشره، مما اضطره إلى نشره في جريدة الشعب.

سعد الله رجل مسالم وهادئ وأليف الطبع، ولكن توجهه الفكري والتزامه الأخلاقي جلبا عليه متاعب كثيرة، ابتداء من التماطل في تعديل شهادتهالدكتوراهالتي حصل عليها من أمريكا وانتهاء بمتاعب إتمام مشروع كتابه تاريخ الجزائر الثقافي الذي أكمل بدايته قبيل وفاته؛ لأنه عصي عن دخول الصف بسهولة.

صحيح أن الرجل عرضت عليه مناصب في الدولة ورفضها لشعوره بخطورتها على مشروعه الوطني الكبير وهو الحفاظ على هوية الجزائر بجميع أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، بلا تهوين ولا تهويل، ولكن في نفس الوقت طبع له جزء من أجزاء كتابهأبحاث وأراء في تاريخ الجزائر، وأظنه الجزء الثالث او الرابع، حيث كان الكتاب يطبع تباعا الأول فالثاني فالثالث.. وهكذا، ولما طبع لوحظ ان فيه معلومة ذكرها موجودة في كتاب لرحالة وصف فيها منطقة ما.. بأن أصل أهلها يهود.. فطلب من الأستاذ حذف هذه المعلومة، إذ ان القوم فهموا من نشر هذه المعلومة أنها تصفية حسابات سياسية في جو صراعات عصب الحزب الواحد، فرفض الأستاذ؛ لأن الكلام الوارد في كتابه ليس كلامه، وإنما هو لصاحب الرحلة التي يتكلم عنها، فصودر الكتاب المطبوع في الشركة الوطنية، وبعد سنوات بيع الكتاب بالدينار الرمزي أيام تصفية الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (SNED) او تقسيمها.

إن الدكتور سعد الله من هذه الناحية يتميز بصرامة علمية لا مثيل لها لا يعلمها القوم الذين أرادوا منه ما أرادوا، ولم يعلموا أنه قاس قسوة الجراح عندما يتعلق الأمر بالمعلومة التاريخية، ولم يستثن من ذلك نفسه حيث كان يذكر الأمر السلبي ولو كان متعلقا به.. فقد أورد كلاما في يومياتهمسار قلم، لا يليق ذكره عادة وعرفا، منها مثلا أنه جلس مع فلان في مقهى مثلا فطلب هو شايا اما صاحبه فقد طلب زجاجة ويسكي، أو أنه استقبل امرأة في فندق وصعد معها إلى الغرفة؛ بل واحتج عمن عاب عليه ذلك، أو أن فلانا غضب منه لأنه يخالفه في أمر ما.. ولما قيل له إن هذه اليوميات لا يليق أن تنشر هكذا وهي من أسرار المجالس وخفايا أحاديث النفس، فقال هذا هو التاريخ وهذا هو الواقع الذي وقع بحلوه ومره؛ بل إنه حريص على إعادة نشر النصوص كما دونت في يومها ولو بأخطاء نحوية كتبت بها.

اتصلت بسعد الله هاتفيا لأواسيه عندما سرقت منه محفظته، ومؤازرة له في محنته، ولأعرض عليه المساعدة إن كان في حاجة إليها، من أجل إعادة مشروع تاريخ الجزائر الثقافي، فقال لييا ريتأين نحن من جهد عشرين سنة يا فلان؟، ومع ذلك سألني ألا أجد عندك نسخة منتاريخ العدوانيمطبوعة او مخطوطة؟ فذهلت للطلب ولجلد الرجل ورباطة جأشه.. الرجل ضرب ضربة تسقط لهولها الكوكبة من الرجال، ومع ذلك بقي صامدا، تألم لوجع الضربة _نعمولكنه لم تنثن، واستمر في طريقه لإتمام مشاريعه العظمى التي كان يرى دائما أنها أطول من عمره المحدود.

إن مشروع تاريخ الجزائر الثقافي كان منذ بداية السبعينيات، وقد صدر له منه الجزآن الأول والثاني عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وفي سنة 1988 كان يأمل في أن يكمل جزئين آخرين ولكن المحنة المشار إليها أخرته إلى ما يقارب نهاية التسعينيات.. ولكن هذه المرة صدر الكتاب في تسعة أجزاء أي أكبر مما كان يتصور، فقد زرته في سنة 1997 أو 1998 لا أتذكر في الأردن، يوم كان في جامعة آل البيت بالمفرق، وحاولت أن أعرف منه  موضوع تاريخ الجزائر الثقافي، ولم يقل لي شيئا ولم أدر أنه كان يومها في مرحلته الذهبية في استدراك ما ضاع منه وما تعطل في حياته كلها، حيث كان على مقربة من الأستاذ حبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي المقيم ببيروت الذي أشرف على نشر كل إنتاجه.. فكان من بين ما أكمل الأستاذ تاريخ الجزائر الثقافي بأجزائه التسع، وأكمله بالجزء العاشر عندما عاد إلى الجزائر، باحتضان مركز دراسات الحركة الوطنية وأول نوفمبر، الذي تناول مرحلة تاريخ الجزائر الثقافي أثناء الثورة، ولم يبق لاكتمال المشروع إلا الفترة من الفتح الإسلامي إلى العهد العثماني، وهذه الفترة من تاريخ الجزائر الثقافي كان موزعا بين المغرب وتونس حسب رأي الأستاذ، التي كان الأستاذ يتألم لعدم إتمامها..، وقد علمت من الناشر الذي يتعامل معه

أنه أتمها قبيل وفاته وربما كانت من آخر ما أنتج رحمه الله، وحسب الناشر سوف تكون هذه المرحلة في أربعة أجزاء.

ودّع علامة الجزائر وعلامتها الدنيا ولم يأسف على شيء أسفه على الجزائر التي خصها الله كل شيء ومع ذلك هي محرومة من كل شيء، وأهم ما حرمت منه بكل أسف استقلاليتها الثقافية وتميزها الذي هي مطالبة به سياسة وثقافة واجتماعا وحضارة، وليس مزية تتمزىأو يتمزى بها مسؤولوها بها على أحد. طلبت من الأستاذ في نهاية الثمانينيات إفادتي بمراجع حول التغريب في الجزائر إذ كنت مكلفا بمحاضرة في مناسبة معينة، فقال لي وماذا تفعل بالمراجع؟ ها هي شوارع العاصمة تعج بكل ما تريد عن التغريب وأشكاله ومضامينه.. قال لي هذا الكلام بألم شديد وحسرة على اندثار قيم ثقافية وسياسية كانت تتمتع بها الحركة الوطنية قبل الاستقلال، وليس كما قد يتوهم المرء تهكما واستعلاء.

فرحم الله الفقيد وعوض الجزائر فريقا من أمثاله أو خيرا منه، وما ذلك على الله بعزيز.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!