الرأي

الرجل الذي.. تبكيه الكتب..

محمد سليم قلالة
  • 3194
  • 16

من ساهم في كتابة تاريخ بلاده السياسي والثقافي والعلمي، ساهم في تشييد حضارتها. ومن ساهم في تعليم أبناء بلده التاريخ والثقافة والأدب، ساهم في تحصينهم من المسخ والغزو والاندثار.. ويكفي الدكتور أبا القاسم سعد الله- رحمه الله- أنه قام بالعملين معا. ألّف، فترك عشرات المؤلفات، هي من أنفس ما في المكتبة الجزائرية. وعلّم وربى، فترك أجيالا من خلفه يعترفون بفضله ولا يكفون عن ذكر اسمه والاستشهاد به مصدرا في كتاباتهم وأحاديثهم. وسخّر نفسه للعلم والبحث.. فما كان من الجميع إلى أن قدّره واحترمه.

لم يطلب منصبا، ولا مسؤولية، ولا جاها، ولا مالا، بل ظل طول حياته إما محاضرا أمام طلبته أو جمهوره، أو باحثا خلف مكتبه مدققا ومؤلفا.. 

كان المكتب الذي خصصه له أحد طلبته، الدكتور جمال يحياوي، في المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، أفضل مكان يأوي إليه للبحث والدراسة، حتى آخر أيام حياته. ولعله اليوم يبكيه مع تلك الكتب التي احتواها، تنتظر التدقيق أو التأليف أو النشر قبل أن يبكيه كل من كان سندا له عند الكتابة في التاريخ أو الثقافة أو الأدب، أو كل من تعلم على يديه ليرتقي إلى أعلى درجات العلم والمعرفة، أو كل من أشرف على بحثه في مذكرة ليسانس أو رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراة، أو كل من تشرف بحضور محاضرة من محاضراته العامة في الجامعة أو خارجها.

لقد كان لي شرف أن حاضرت إلى جانبه في أحد الملتقيات بالجامعة. وكم كان خجلي كبيرا وأنا اطلب أن أتكلم قبله، لأن الحديث بعده لن يرقى أبدا إلى مستواه.. وكم كان متواضعا، وهو يفخر بالجيل الجديد من الطلبة والأساتذة، ويسمي بعضهم بالأقلام الواعدة، بل ويدعوهم بالدكاترة وهو أستاذهم، ويسعى باستمرار أن يكونوا خير خلف له، في عطاء غير محدود من نبع صاف لا ينضب.

 

كنا دوما نأمل من رجل في قامته أن يقود قطاع الثقافة في بلادنا أو قطاع التربية أو التعليم العالي والبحث العلمي، أو أن يتقلد مناصب عالية في الدولة من شأنها أن تسمح له بإحداث نقلة نوعية في هذا القطاع أو ذاك، وأن يبين عبقرية النخبة في البناء، ولكنه كان يأنف حتى عن الحديث في ذلك.. لقد كان العلم بالنسبة إليه أولى من السياسة، أو لعله لم يجد السياسة التي تقدر العلم، ففضل أن ينحاز إلى مكتبه وكتبه، التي هي وحدها التي ستبكيه بصدق، خلافا للآخرين. ولعلها اليوم بحق تبكيه في صمت ومن غير أن يدري بها أحد أكثر مما نبكيه نحن.. مهما أحببناه..

مقالات ذات صلة