الرأي

السلطة والشعب… “خاوة خاوة”

ح.م

رحم الله الفريق قايد أحمد صالح، فقد رسم بفضل وطنيته وحكمته وحرصه على صون دماء الجزائريين صورة تاريخية ناصعة لتلاحم الشعب بجيشه، بعد أن نزغ الشيطان وشهوة الحكم بينهما خلال عشرية الموت والدمار.

قد يختلف الناس حول تفاصيل إجرائية لا قيمة لها أمام ما أحدق بالبلاد من مخاطر مهلكات خلال الشهور الماضية، لكن لا ينكر عاقل صادق أنّ المؤسسة العسكرية تحت مسؤوليته الرشيدة قد سارت بالجزائر إلى برّ الأمان وسط حقول من الألغام.

لقد برهنت جنازة الجماهيرية المهيبة للفقيد أنّ النفور بين الحاكم والمحكوم ليس قدرًا محتومًا، بل هو استثناء نشاز في الإقليم العربي والعالم المتخلف عموما، نتيجة تراكم عقود من الفساد والاستبداد، وأنّ الوضع الطبيعي هو حالة من التناغم والتكامل بين سلطة شرعية متفانية في خدمة الشعب ومواطنين ملتزمين بدعمها وإكرام رجالها في الحياة وبعد الممات.

لا أحد دفع هؤلاء الجزائريين الذين خرجوا بالملايين لتوديع قائد عسكري برتبة فريق، في سابقة لم تعرفها جغرافيا الإقليم إلا مع الزعماء القوميين قبل عقود من اليوم، ولا يمكن أبدا أن يكونوا ضحايا تضليل أو ضخ إعلامي موجه في زمن المعلوماتية و”النيوميديا” ومواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة، بل جاء نفيرهم ترجمة لعقيدة الولاء تجاه أفكار الراحل، وتعبيرا عن تأييد مطلق لمسار اختاره المرحوم بكل شجاعة وصلابة لتجنيب الوطن مزالق المتربصين.

إنّ فاجعة الفريق قايد صالح على مرارتها العصيبة قد صنعت أمام الجزائريين فرصة لبناء نموذج جديد للحكم، بعدما أبانت عن تقدير الشعب لقائده حينما يكون مخلصا في إنقاذه وموفيّا بعهوده الوطنية، والعكس صحيح إن “خان الرائد أهله”.

لذلك، فإنّ تلك الرسائل السياسية التي كانت استفتاء صريحا علنيّا أمام العالم، حول مسار وخيار بدا إلى وقت قريب مختلفا حوله، لا نريدها أن تكون مجرد مشاهد إنسانية عابرة، بل وجب تحويلها إلى لبنة قوية في صرح البناء الوطني الجديد، من خلال تعزيز جسور الثقة بين الحاكم والمحكوم، على أسس الإخلاص والنزاهة والتجرد والوفاء لميراث الشهداء والمشروع النوفمبري الأصيل لدولة ديمقراطية اجتماعية ضمن المبادئ الإسلاميّة.

ونعتقد أن الانقسام الواقعي حول مجريات رئاسيات 12 ديسمبر لم يعد من الناحية العملية مبرّرا ولا مفيدا، وإنما الأحرى بالرافضين للمسار الانخراط الآن في عملية الإصلاح والتغيير، للمساهمة جماعيّا في ترتيب ملامح وملفات المرحلة المقبلة.

إن دور الرئيس الجديد حاسم في تكريس حالة الارتباط بين السلطة والشعب من جهة، وفي إعادة اللحمة للجزائريين فيما بينهم، لتجاوز الخلافات السياسية وحتّى العنصرية والجهوية التي طفت على هامش الأحداث.

ولن يتحقق ذلك إلا عبر مُباشرة حقيقية للقطيعة النهائية مع ممارسات الماضي ورموزه الفاسدة في كل المواقع، والتأسيس لعهد إصلاحي جديد في إطار توافق وطني واسع، يبدأ بحوار جادّ مع كل الأطياف المؤمنة بالشرعيّة حول تعديل الدستور وإعداد المنظومة القانونية المرتبطة بالعملية السياسية والانتخابية والإعلامية بما يكرس الشفافية والمساواة في المنافسة الحزبيّة، ثمّ الذهاب نحو استحقاقات برلمانية ومحلية مبكرة على قواعد تنافسية عادلة، للتخلص من مجالس التزوير والتدوير.

علينا الانتباه إلى أنّ استهلاك الوقت دون تقدّم سياسي سيعيق كثيرا مواجهة تداعيات أزمة مالية لا تزال تحتدم من يوم إلى آخر، دون بروز أفق لحلول ناجعة خارج تنويع موارد الدولة، وحينها ستكون الكلفة حادّة وباهظة اجتماعيّا واقتصاديّا، لأنّ الخروج من المأزق السياسي سيمنح الفرصة الكاملة لسدّ ثغرات الشرعية الانتخابية بمشروعية المنجزات الإصلاحية، ليشكل بذلك الانطلاقة السليمة لاستكمال المسار الآمن.

مقالات ذات صلة