الرأي

“السلفية الطائفية”

التهامي مجوري
  • 3313
  • 16

هذا العنوان اقتطعته من مقال نشر في موقع “الجزيرة نت” للكاتب السعودي “مهنا الحبيل”؛ لاعتماده عنوانا لموضوع كنت أفكر في الكتابة فيه منذ مدة، فهو عنوان معبر عما في نفسي حول هذا الموضوع، تجاه بعض فئات التيار السلفي، التي ذهبت بالإسلام يمنة ويسرة، بحيث أضحت تحمل بتصرفاتها مواصفات الطائفة، التي من أهمها اعتماد القضايا الجزئية الخلافية، قواعد حاكمة، على باقي تصورات الأمة، الجزئية والكلية، حتى كادت تذهب بلب الإسلام وأصوله ومقاصده.

ولم أضرب موعدا للكتابة في هذا الموضوع، حتى وقعت بين يدي مطوية بعنوان “ماذا قال علماء الجزائر، في الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟”، فقرأتها وإذا بها تحمل فقرات كتبها شيوخا من علماء الجزائر، قبل أكثر من نصف قرن، منهم الشيخ عبد الحميد بن باديس المتوفي سنة 1940، والشيخ أبو يعلى الزواوي المتوفي 1952، والشيخ الطيب العقبي المتوفي 1961، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي المتوفي سنة 1965، يوم كانت السلفية سلفية، ولم تكن طائفة تحمل من الإسلام قسما، ويوم لم تكن تعني السلفية غير المصطلح، الذي أجمعت عليه الأمة، وهو سلوك ومنهج سلف الأمة، المتمثل في القرون الثلاثة الأولى، في التعامل مع الوحي والواقع.

وقبل الكلام عن التحولات التي شهدتها الحركة الوهابية والتيار السلفي، لا بد من كلمة عن هذه المطوية، لمحاولة فهم سر ظهورها هذه الأيام بالذات، لا سيما أن الذي سلمنيها قال لي إنها توزع في المساجد، وذلك يعني أنها مطوية “صنعت على عين”، وهذه العين، هي التي يهمها تنشيط هذه الفئة، التي أطلق عليها الكاتب السعودي مهنا الحبيل، مصطلح “السلفية الطائفية”، لتوزع على الناس دعاية لها ولتوجهها الطائفي القاصر.

قد تكون هذه المطوية عبارة عن فعل استباقي، للتحريض على توجه وزارة الشؤون الدينية المفترض، والذي تحدثت عنه وسائل الإعلام، من كونها معارضة للوهابية، حتى توضع هذه الوزارة وجها لوجه مع علماء الجزائر، الذين أثنوا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وعندما يكون علماء الجزائر، من أقطاب جمعية العلماء ومؤسسيها، تتحول المواجهة، من مواجهة بين أدعياء الوهابية من جهة، ووزارة الشؤون الدينية من جهة أخرى، إلى مواجهة بين جمعية العلماء ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف، أو بين جمعية العلماء والوهابية الحقة؛ بل ربما تورط أبناء جمعية العلماء، بمواقف قد تسيء للعلماء وللحركة الوهابية معا، وهذا تلبيس وتدليس للحقائق، وتزيين لواقع أدعياء الوهابية أو السلفية الطائفية، المنحرف عن الجادة، الذي تستهجنه الطباع السليمة والأوفياء للإسلام وأصوله ومقاصده.

الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مصلح من بين مئات المصلحين في العالم الإسلامي، وحركته حركة إصلاحية، من بين عشرات الحركات، التي نشأت في العالم الإسلامي، من أجل النهوض بالأمة، ولا يسع العاقل إلا الثناء على هذا الرجل، وعلى حركته المباركة، التي قامت بواجبها في جزيرة العرب، كما قام غيرها بواجباتهم، في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، ولكن هذا الثناء لا ينبغي أن ينسينا الأصل الذي هو الوحي ومنهج الأمة المستقى من مجتمع الصحابة، رضي الله عنهم، وعليه فمن العيب أن نستنجد بعلماء الجزائر، حتى نثبت أن محمد بن عبد الوهاب، كان على صواب، وان حركته التي أسسها، هي في صالح الإسلام، وإذا كان الأمر كذلك، لماذا نذهب إلى ابن عبد الوهاب؟ لماذا لا نتعلق بهؤلاء العلماء، الذين أثنوا على محمد بن عبد الوهاب، واستنجدنا بهم لتقديم شهاداتهم؟ ونستأنس بمقالاتهم عن محمد بن عبد الوهاب، أليسوا هم أولى بالإتباع؟ ثم لماذا نتعلق بابن عبد الوهاب نفسه؟ أليس من الأولى أن نأخذ من حيث أخذ؟ من الوحي ومن جيل الصحابة، ومن ابن تيمية وابن القيم، اللذين يعتبران من المنابع الأصيلة للحركة الوهابية؟

إن الحركة الوهابية حركة أصيلة، نشأت على تقوى من الله، مستهدفة الشرك والخرافة والانحراف السياسي، ومشيعة بين الناس صفاء التوحيد، والعلم الشرعي والإخلاص في العبادة، والعدل ومحاربة الظلم.

تلك هي أسس حركة الإصلاح الوهابية.. ولذلك اعتبرها مالك بن نبي رحمه الله من الحركات الإصلاحية الجادة، في الانفصال عن الغرب وطروحاته العدوانية الاستكبارية الاستعمارية، وإعادة صفاء التوحيد إلى أصوله.

ولكن هذه الحركة، لم تبق على نفس الصفاء، والوتيرة، والغايات، التي نشأت عليها، وهذا طبيعي؛ لأن مستوى الأمة الثقافي والفكري، أضعف من موجبات مشروع النهضة، الذي انطق في العالم الإسلامي، منذ نهايات القرن التاسع عشر، والمهم في النهاية، أن ما بقي على سطح الأحداث من هذه الحركة، هو تحول تجربة اجتهادية في بقعة من العالم الإسلامي، إلى مصطلح أشمل وأعم، ولا ندري من وراء هذا التحول؟ ولا متى؟ ولا كيف؟ ولا لماذا؟ استبدل مصطلح الوهابية بمصطلح السلفية.. وكل ما هنالك أن الأمر شاع بين المسلمين أن الحركة الوهابية هي الحركة السلفية، وليس غيرها من التجارب، في حين أن هناك حركات أخرى نشأت في العالم، بهذه التسمية بالضبط “السلفية”، في مصر وفي الهند وفي المغرب الأقصى، ثم إن حركات الإصلاح، كلها كانت ولا زالت، تنهج النهج السلفي بمفهومه الشرعي وليس بالمعنى الطائفي الإختزالي، ولذلك كان مصطلح السلفية في العالم، هو القاسم المشترك بين كل المسلمين، إلا من أبى من الطرقيين المصرّين على البدعة وفساد الدين، ولم تكن خلافات العاملين للنهوض بالإسلام وبالأمة، مانعة للالتقاء والتعاون فيما بينهم، وإنما كان لكل فئة من الناس، اهتمامات وأولويات غير التي للفئة الأخرى، وفق برنامج وأولويات وضعتها الجماعات لنفسها، فاشتهرت الوهابية بمحاربة القبوريين والمبتدعة، واشتهرت الحركات في مصر وباكستان وأندونيسيا بالتركيز على الجانب السياسي، واشتهر علماء الهند وحركاتهم بالتعليم الشرعي والتربية الروحية، واشتهر العلماء في الجزائر بالتربية والتعليم، ولم يركّزوا على ما ركز عليه غيرهم، من اهتمام بالنضال الحزبي السياسي، ومحاربة الطرقيين إلا فيما كانوا فيه موالين للاستعمار، أو كان مخالفة شرعية غير قابلة للاجتهاد والتأويل؛ بل إن ابن باديس نفسه، حذر من الدخول في صراع، مع الطرقيين في منطقة القبائل، من ناحية أن الطرق الناشطة هناك أقل ابتداعا وخرافة، ومن ناحية أخرى باعتبار المنطقة مهددة بالتنصير بسبب النشاط التنصيري المكثف بها.

والناظر لهذه الاجتهادات كلها، يلاحظ أن الجماعات والحركات التي نشأت في تلك الفترة، استوحت برامجها من الحاجات الواقعية لمجتمعاتهم، فالوهابية رأت أن أولى أولوياتها محاربة المظاهر الشركية، التي غزت جزيرة العرب، والحركات في مصر وباكستان وأندونيسيا ركزت على الجانب السياسي؛ لأنها رأت ذلك من أولوياتها، في محاربة الاستعمار وإحياء الخلافة التي سقطت في سنة 1924، أما علماء الجزائر فقد اختاروا التربية والتعليم؛ لأنهم رأوا أن حضارة الإسلام قد انهارت، المسلم اليوم في حاجة إلى إعادة صياغته من جديد، وفق مقررات الوحي والواقع الإنساني، وهذا الاختلاف في التشخيص، لا يعني أن كل تيار منهم، انكفأ على نفسه وانغلق، وإنما اهتم بالمجالات الباقية، وفق سلم أولوياته، وليس وفق أولويات الآخرين. رحم الله علامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي القائل في الحركة الوهابية نفسها: “… وإن فرقت بيننا وبينهم الاعتبارات، فنحن مالكيون… وهم حنبليون…، ونحن في الجزائر، وهم في الجزيرة، ونحن نُعمل في طريق الإصلاح الأقلام، وهم يُعملون فيها الأقدام، وهم يعملون في الأضرحة المعاول، ونحن نعمل في بانيها المقاول… إننا نجتمع مع الوهابيين، في الطريق الجامعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وننكر عليهم غلوهم في الحق..” [لآثار الإبراهيمي 1/124-125].

فالحركة الوهابية، التي لم تجعل النضال السياسي من أولوياتها، ساهمت في إنشاء دولة تجمع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وجمعية العلماء التي ركزت على التربية والتعليم، وكما قال رائداها ابن باديس والابراهيمي “فكرة صحيحة وعلم قليل”، لم يهملوا الدعوة إلى صفاء التوحيد ومحاربة البدعة، ومقالات الشيخ مبارك الميلي “رسالة الشرك ومظاهره” التي كان ينشرها في جريدة البصائر، قبل أن تتحول إلى كتاب، شاهدة على ذلك.. وقل مثل ذلك في جميع الحركات، التي أنشئت لخدمة الإسلام، والدعوة الإسلامية والعودة بالأمة إلى مجدها.

وكل ما هنالك أن من قام بعمل وضع خطته، وبناها على أولويات ورتبها.. أما من حيث المبدأ، لا تجد حركة أشئت لتخدم الإسلام والأمة، واقتصرت على عمل معين دون غيره.

فالمشكل الواقع إذاً، ليس أصل أهمية حركة ابن عبد الوهاب، التي هي جزء من سلفية الأمة العريضة، وإنما الإشكال في قصر مصطلح السلفية، على هذه الحركة دون غيرها، ثم الإشكال الأكبر هو في تقزيم الحركة والوهابية، من حركة نهضوية شاملة، إلى حركة ذات برنامج سطحي جزئي عاجز عن فهم الواقع الذي يعيشه الناس، فضلا حمل رسالة الإسلام الثقيلة، وحصره في قضايا، أضحت من معالم التيار السلفي –بكل أسف-، لتتحول بعدها إلى طائفة تحمل مواصفات معينة، تسمى الفرقة الناجية حينا، والطائفة المنصورة حينا آخر..، ثم لتتجسد في جملة من التناقضات، لا تستطيع التخلص منها، إلا بعمليات تنويمية متتالية، أو بتدارك إصلاح المنهجية التي تتناول بها هذه الفئة قضايا الأمة.

ومن هذه القضايا:

أولا: حصر قضايا الإسلام وعوامل النهضة في القضاء على المسائل الخلافية، والتغاضي عن عمارة مساحات الاتفاق وما أكثرها، وهذا منهج مخالف لطبائع الأشياء؛ لأن الناس خلقوا ليختلفوا، والاختلاف مهما كان ومهما كانت مسائله متعددة، لا يمكن إلا أن يكون مصدر ثراء فكري للأمة، ما دام الخلاف لا يخرج عن الأصول المقررة، لغة وفكرا وعلما، أو القطعيات من النصوص.

ثانيا: المنهج الانتقائي؛ وهذا المنحى العاجز عن فهم الواقع والتاريخ، وعن حمل الإسلام بثقله، بدلا أن يحمل ما استطاع حمله، ويجتهد في الاستزادة مع الاعتراف بالتقصير، يسد هذه الثغرة بادعاء كمال ما هو عليه، بمجرد انه لا يصلي إلى قبر أو هجر بدعة ومبتدع وكفّر كافرا، قامت الأدلة على تكفيره؛ بل إن هذا النوع من الناس، قد قزم ابن تيمية رحمه الله –العالم المفكر المبدع الأصولي الفقيه المربي العظيم-، إلى مجرد مشروع خلافي يمزق الممزق ويشتت المشتت، رغم أن من يقرأ ابن تيمية، يجد من الفكر والاجتهاد والعمق في الطرح والتحليل، ما لم يسمع به هؤلاء الإخوان، ولو رحنا نحصي المسائل المقتبسة والمنقولة عن ابن تيمية لوجدنا 90 بالمائة منها في المسائل الخلافية، التي لابن تيمية فيها رأي، وهذا الرأي لا يخرج عن المذهب الحنبلي في 90 بالمائة منه، في حين أن ابن تيمية تكلم في الاقتصاد، وتكلم في السياسة وفي الفلسفة وفي علم الكلام، وله اجتهادات في كل ذلك وفي الأصول وفي الحديث…إلخ، ومع ذلك لا يذكر إلا في محاربة الشيعة أو في التحامل على المتكلمين او في التشنيع على المبتدعة ومتعصبة المذاهب.

ثالثا: الخلط بين استعداء الناس واسترضائهم، بسبب الكفر والإيمان، أو بسبب الظلم والعدل؟، فعلى المستوى المبدئي، المسلم مطالب بالدعوة إلى الإيمان، وبمحاربة الكفر والشرك، ولكن علاقات الناس وحاجاتهم لبعضهم البعض، لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوزه إلى الحرص على إشاعة العدل، والحفاظ على الحريات، ومحاربة الظلم والاستبداد؛ بل إن إشاعة العدل والحرية بين الناس، أولى من دعوتهم للإيمان، لأن إيمان الشخص وكفره عليه وحده، أما ظلمه وعدله فمتعدي إلى غيره من الناس، وذلك عندما نضطر للموازنة أما الأصل فإن الجمع بين الحسنيين أولى وأفضل.    

مقالات ذات صلة