-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ‭ ‬شيبان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭: ‬شهادة

الشيخ‭ ‬شيبان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭: ‬شهادة

يحدث للإنسان الشغوف بمعرفة العظماء الأصلاء أن يعيش زمنا يشرف بوجود رجال متميزين فلا ينتبه لهم ولا يتصل بهم ولا يتعرّف عليهم إلا في خريف عمرهم أو نهايات أجلهم وحينما يحدث الوصال يقع الانبهار ومعه الأسى على ما ضاع من فرص التعلم منهم والاستفادة من باعهم وصناعة المعروف معهم.

  • من هؤلاء الرجال الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه الله، الذي وافته المنية في أحسن خاتمة يتمناها المؤمن بالله واليوم الآخر، إذ مات في يوم جمعة من أيام رمضان وعقله كامل الإدراك لا يفكر إلا بأوضاع الأمة ولا يوصي إلا بالجد الذي ينفع في الأولى والآخرة، لا تُرى منه وهو على فراش المنية سخطا ولا تسمع منه إلا ذكرا وعبارات الأنس بالله والاستعداد للقائه. وحينما يجيء الأجل في الساعات الأولى من يوم عطلة في شهر الصيام يصعب فيها نقل خبر الوفاة، يهبّ أعيان الوطن وسادتهم إلى مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باكرا يُوقّعون بحضورهم حجم الرجل ومقامه في الوطن الذي تركه، وحينما يُنقل جثمانه إلى مسقط رأسه يلحق به الناس من كل حدب وصوب بكل ألوان الطيف السياسي والثقافي والاجتماعي كأنهم مجتمع مصغر للجزائر كلها.
  • يعرف الذين خالطوا الشيخ أو سمعوا منه أو عنه بأنه أدى الذي عليه وأن إنجازاته بصماتٌ ثابتة وحسنات جارية يعرفها الله ويعرفها الأُوّل في رهط الصالحين وطليعة المارقين في جزائر الاستقلال وهي إنجازات كبيرة كثيرة لابد أن ينبري لكتابتها من عرفها وشهد عليها. وأريد في مقالي هذا، أن ألفت النظر إلى مثالين عظيمين من هذه الإنجازات ذكرتهما في حياته، رحمه الله، في مجالس عدة ومناسبات كثيرة ووقفت عندهما بالتحليل والتمحيص والتأمل والتدبر في صنيع الله بخلقه كيف يجعل عبادا من عباده أسبابا لنشر قدر كبير من خير يتشعب ويتمدد فلا تعرف‭ ‬له‭ ‬نهاية‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬ولا‭ ‬المكان‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يُنسب‭ ‬هذا‭ ‬الخير‭ ‬لأصحابه‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬يُذكرون‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬رواده‭.‬
  • كانت نظرتي للشيخ الشيبان رحمه الله قبل أن أعرفه وأشتغل معه هي النظرة القاصرة التي تربّى عليها أغلب شباب الصحوة الإسلامية تجاه من ليسوا معهم، فهو بالنسبة لنا في ذلك الزمن رمز من رموز جبهة التحرير الوطني الذين يجب أن نسيء فيهم الظن ابتداء باعتبارهم جميعا طبقة انتهازية مساندة لنظام علماني فاسد لا تهمهم إلا مصالحهم ولا علاقة لهم بقيم الإسلام ومشروع الأمة ولا يهمهم إلا معاداة التيار الإسلامي ومشاكسته. كان يمكن لهذا التفكير الشبابي الأرعن أن يستمر لولا تأثير بعض الرجال الكبار على رأسهم فقيدنا الآخر الشيخ محفوظ نحناح، رحمه الله، الذي سلك بعد خروجه من السجن نهجا راشدا في منظومة العلاقة مع الغير، فعلمنا كيف ننظر بجميع ألوان الطيف وأن نترك الذهنية الحزبية المتعصبة حتى نبصر الأمور على حقيقتها فلا نُحرمُ مما في الدنيا من نفائس وإن لم تكن في ظاهرها على اللون الذي يطربنا. كنت أمينا وطنيا لحقوق الإنسان والعلاقة مع المجتمع المدني في المكتب التنفيذي الوطني لحركة مجتمع السلم في النصف الثاني من عقد التسعينيات حينما انضبطت علاقتي مع رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكان مشروع العلاقة المساهمة في إعادة بعث الجمعية من جديد لأغراض استراتيجية مستقبلية لم تكن تُرى آنذاك، فقدمنا المساعدة في تأسيس عدد من فروعها الولائية والبلدية في زمن كان الولع بالعمل الحزبي لايزال قويا عند الإسلاميين، ففتح لنا الشيخ الشيبان أبواب منظمته مشرعة وأدّينا معه بكل ثقة ما استطعنا حتى إذا صار الاحتفاء بجمعية العلماء يتنامى بعد خيبات الأمل على جبهة السياسة وكثرة الانشقاقات في الأحزاب الإسلامية، انسحبنا إلى الخلف واكتفينا من الغنيمة بنيل ثقة الشيخ ومحبته والاستفادة من علمه وأدبه وحكمته مما ساعدنا من بعد على الالتقاء معه في ساحة أرحب وأعظم وهي ساحة خدمة فلسطين والنضال من أجل المسجد الأقصى، فكانت أول تجربة معه (وبمشاركة عدد من الشخصيات الوطنية الأخرى) تأسيس التنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع سنة 2000 التي أُنشئت على إثر محاولة الزيارة الافتزازية للمغني الصهيوني انريكو ماسياس لقسنطينة بدعوة رسمية، ثم مشروع إعادة تأسيس فرع مؤسسة القدس الدولية سنة 2007 التي تولّى المرحوم رئاستها وتشرفت بأن أكون معه أمينها العام فنهلت في هذه المحطات كلها من نبل هذا الرجل وسعة علمه وواسع حلمه وقوة شخصيته ودقة فهمه وحدة ذكائه وصلابة دينه ووافر أدبه وبديع فصاحته وعمق غيرته على الأمة وقضاياها وقدرته الفذة على جمع قوى المجتمع الجزائري مهما اختلفت وتخاصمت من أجل خدمة قضاياها المشتركة حتى وددت لو أني تعرفت عليه في وقت مبكر تسعفه فيه صحته ووقته على الصبر على تطفل عليه أوفر في هذه المجالات كلها.
  • قد يعتقد القارئ بأن هذه الورشات الكبرى التي أشرت لها أعلاه هي التي عنيتها بحديثي عن الإنجازين الكبيرين اللذين صنعا معروفا لم يتوقف أثره إلى اليوم. ليس ذلك الذي قصدته، هذه المشاريع مهمة بكل تأكيد ولكن أثرها لم يصل بعد إلى مداه، لقصر الزمن ربما، ولكن خصوصا بسبب منغصات كثيرة أهمها بالنسبة لمؤسسة القدس عدم منح السلطات العمومية لهذا الرجل ومن معه من الأفاضل الاعتماد القانوني للمؤسسة، وفي كل الأحوال تبقى هذه مشاريع قائمة من بعده وسيتحدد مصيرها بمدى وفرة الرجال الكبار المخلصين الأوفياء الذين سيخلفونه في جمعية العلماء‭ ‬وفي‭ ‬ساحات‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬كلها‭.‬‮    ‬
  • دارت مؤامرة كبيرة بعد الاستقلال على هوية الوطن واختياراته الأساسية وتوغلت تيارات علمانية مارقة في مفاصل مؤسسات الدولة والمجتمع عملت على مسح الآثار الإسلامية للثورة التحريرية وربط البلد بقيم غربية وشرقية لا صلة لها بالوطن ومُثلِه فنهضت لها صحوةٌ إسلامية شاملة أبطلت كثيرا من مخططاتها وأنشأت جيلا من الشباب صان قدرا كبيرا من عهد المجاهدين والشهداء وساد الاعتقاد بأن الصحوة الإسلامية لم تصنعها إلا الدعوة الإسلامية التي كانت تعمل في المجتمع الفسيح بعيدا عن الأطر الرسمية بل وضدها في كثير من الأحوال بوسائلها التقليدية المتنوعة بين الدعوة الفردية والمحاضرة والمعرض ونشر الكتب والأشرطة والمناشير والحلقات الخاصة والعامة، وينسى الكثير بأن ثمة معارك أخرى خاضها رجال صالحون على الجبهة الرسمية كانت ذات أثر كبير في تنشئة جيل الصحوة وفي تفكيك مخططات العلمانيين ومن هذه الجبهات الكتاب المدرسي الذي أشرف على إعداده فضيلة الشيخ شيبان رحمه الله والذي كان كتابا إسلاميا بكل المقاييس تربّى عليه ملايين الجزائريين في كل قرية وفي كل حي من ربوع الجزائر، وقد حكى لي المرحوم قصة نضاله في الوزارة، حيث قال لي: حينما استدعيت للمنصب قلت في نفسي لعلهم يريدون استعمالي لمآرب لا أعرفها، فأقسمت بالله أن أقوم بعمل كبير للّه وللوطن يترك أثرا صالحا لا ينتهي وليكن ما يكون، فرسم الشيخ بهذا النموذج الصورة الأصيلة للوزير والمدير والمسؤول الذي لا يقبل المسؤولية إلا وهو يقصد خدمة دينه وأمته ووطنه وقد ترك صنيعه هذا أثرا عظيما لم ينتبه له التيار العلماني إلا بعد فوات الأوان، فأعلنوا حربا شاملة على المنظومة التربوية لعلهم يغيرون ما فعلته كتب الشيخ الشيبان في نفوس رواد المدرسة الجزائرية فلا يزالون إلى اليوم في تيههم لا يبصرون، عجزوا، رغم كل تجاربهم المجترة، أن يصنعوا جيلا‭ ‬نال‭ ‬من‭ ‬المقامات‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬وخارجه‭ ‬ما‭ ‬ناله‭ ‬المتخرجون‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬شيبان‭ ‬عليه‭ ‬رحمات‭ ‬الله‭ ‬الواسعة‭.‬
  • ذلك هو الإنجاز الكبير الأول الذي قصدته والذي لا يقل أهمية في تشييد الصحوة على ما فعله نضال الدعاة المجدين منذ السنوات الأولى للاستقلال. وأما الإنجاز الثاني، فله صلة بما فعله هؤلاء الدعاة بالذات وكأن الله أراد للشيخ شيبان أن تكون له بصمة مع هؤلاء كذلك حتى يحوز‭ ‬الخير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أطرافه‭. ‬
  • حينما خرج الشيخ محفوظ نحناح ورفيق دربه الشيخ بوسليماني رحمهما الله من السجن في بداية الثمانينيات وجدا نفسيهما بلا عمل ولا وظيفة ولا قدرة على التحرك والبذل، ملاحقين في كل مكان من قبل البوليس السري والعلني، فرقّ لحالهما الشيخ شيبان رحمه الله وكان يعرف فضلهما ومقامهما فصنع لهما معروفا تُفهِمنا نصوص الكتاب والسنة الواردة في شأن الحسنات الجارية بأن كل ما انجر عن هذا الموقف من خير متشعب وممتد ومتواصل قدمه زعيما الوسطية والاعتدال سيأخذ رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أجره كاملا لا يُنقص ذلك من أجر صاحبيه شيئا‭.‬
  • قال لي الشيخ الشيبان ذات يوم، سأحكي لك قصة عن محفوظ وبوسليماني لا يعرفها الناس: »كنت وزيرا للشؤون الدينية حينما خرج الرجلان من السجن فقررت أن لا أتركهما في تلك الحالة وأن أوفر لهما فرصة أخرى ليواصلا مشوارهما الدعوي فناديتهما عندي في الوزارة وقلت للشيخ محفوظ سأوظفك وصاحبك في قطاع الشؤون الدينية وأمنحكما سيارة تتحركان بها واذهبا حيث شئتما، إذا احتجتك سأتصل بك وإذا احتجتني اتصل بي«. ثم واصل الشيخ شيبان قوله للشيخ محفوظ مازحا: »أنا أعلم بأنك زعيم في أصحابك، الله يسهل عليك، أنا لا علاقة لي بجماعتك فأنا كذلك زعيم،‭ ‬اذهب‭ ‬حيث‭ ‬شئت‭ ‬وافعل‭ ‬ما‭ ‬تريد‮«‬‭. ‬
  • لقد كان موقف الشيخ شيبان هذا مخاطرة كبيرة فقد أخبرني بأن مسؤول المخابرات في ذلك الوقت لامه عن ذلك لوما شديدا وحذره من مغبة فعله، فقال له الشيخ شيبان: أنا مسؤول عن الرجل مادام عندي، وكل ما يقوم به خارج إطار الشؤون الدينية أنتم مسؤولون عنه ولا شأن لي بالموضوع. والعجيب في الأمر، أن هذا المسؤول الذي صار بعد ذلك وزيرا للداخلية، ولا يزال له وزنه في نظام الحكم الحالي، قال للشيخ شيبان بعد أن ظهرت المواقف الوطنية للشيخ محفوظ عند انفجار الأزمة: لقد كان رأيك في الرجل صائبا.
  • لم يكن رأي الشيخ شيبان في الشيخ محفوظ صائبا فحسب بل حكيما كذلك، يدل على رؤية ثاقبة وبديهة حاضرة وذكاء حاد وكأنه علم بأن هذا الرجل وصاحبه سيتجاوزان الظرف الصعب الذي كانا يمرّان به وأنه سيكون لهما شأن كبير على طريق الدعوة وخدمة الوطن وأن الذي يحتاجانه في تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬رزق‭ ‬ووسيلة‭ ‬نقل‭ ‬وغطاء‭ ‬قانوني‭ ‬وأن‭ ‬الذي‭ ‬يقومان‭ ‬به‭ ‬تحت‭ ‬ذلك‭ ‬الغطاء‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬أي‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬البلد‭ ‬وعلى‭ ‬الدولة‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬خير‭ ‬عميم‭ ‬ظهر‭ ‬أثره‭ ‬بعد‭ ‬حين‭. ‬
  • لو كُتب لأي مسلم أن يقوم بهذين الإنجازين فقط في حياته لكان كافيا لتكون هذه الحياة مُجدية، فكيف وللمرحوم خصال أخرى كثيرة قبل الاستقلال وبعده سيخط قصصها من عايشوا مسيرته الطويلة التي طال فيها عمره وصلح عمله حيث تجاوز التسعين سنة رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. ‮ ‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!