الشيخ محفوظ رحمه الله، حين ينصف الزمن الرجال
حين أعلنت جماعة الإخوان المسلمين قرار دخول الانتخابات الرئاسية بمرشحها، تذكرت حادثة مهمة وقعت للشيخ محفوظ نحناح – رحمه الله- سنة 1995 مع الجماعة. كانت الظروف السياسية في الجزائر في تلك السنة ضاغطة على الشيخ محفوظ، حيث وجد نفسه وتجربته ورصيده وحركته وأتباعه بين مشروعين متصادمين تمام التصادم، لا يتفق مع كليهما في المنهج والسلوك السياسي، هما مشروع نظام الحكم ومشروع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكان عليه -رحمه الله- أن يتخذ قرارا حاسما بالبقاء في الساحة السياسية واستمرار العمل أو الخضوع للقطبية الثنائية القائمة آنذاك المقصية لكل رأي الآخر، لإخراج البلاد من الأزمة.
وحينما قرر الشيخ محفوظ نحناح دخول معترك الانتخابات الرئاسية وفق استراتيجية سياسية، أثبت الزمن بعد ذلك نجاعتها، عارضه كثير من الإسلاميين في داخل الوطن وخارجه، ومنهم جماعة الإخوان المسلمين، حيث أبرقت له رسالة تلومه فيها على خطوته وقراره، وتحاول إقناعه بأن التيار الإسلامي الوسطي لا ينافس على الرئاسة. وبالنظر للظروف التي كان يعمل فيها، اعتبر الشيخ محفوظ نحناح هذا الموقف من جماعة له علاقة متميزة بها، إرباكا شديدا له ولمشروعه السياسي، فأرسل الوفود لشرح موقفه وتبيان خصوصية الوضع في بلده، فلم يفلح إلا قليلا في ذلك، ولم يقتنع القوم بصوابية رأيه إلا بعد النتيجة الكبيرة التي حققها رغم التزوير الانتخابي الذي أقر به بعض من قام به.
كان الإخوان المسلمون يعتبرون منافسة الإسلاميين على الرئاسة في العالم العربي خطا أحمرَ لا يجب تجاوزه، ولكنهم حينما وجدوا أنفسهم في وضع لم يَحسبوا له حسابه قرروا التراجع عن سياستهم القديمة هذه، وبرروا ذلك بخصوصية المرحلة التي تمر بها مصر ويمر بها مشروعهم وجماعتهم. لا أريد أن ألوم الإخوان هنا، فهم أدرى بشؤونهم، وقد يكون قرارهم الأخير عين الصواب، ولكنني أريد أن أعلي من شأن الشيخ محفوظ نحناح -رحمه الله- الذي تجاوز فكره زمانه، وقدر أن يضع منهجا صلبا في كيانه، مرنا في أدائه، لا يغلق على نفسه الآفاق، يقدر على العمل في كل الظروف، يهتبل الفرصة إن حضرت، ويرتب للقائها إن غابت… ولو بعد وفاته.
لقد جعلني موقف الإخوان هذا أتأمل كثيرا في تصرفات الإسلاميين بعد الثورات العربية، فوجدت فيها تكرارا كثيرا لفكر ناضل من أجله الشيخ محفوظ قبل عقدين من الزمن لم يكن يوافقه عليه الكثير آنذاك. حينما قرر -رحمه الله- التميز عن التطرف والتشدد لمصلحة المشروع الإسلامي لامه بعض قادة التيار الإسلامي، وها نحن اليوم نسمع عبارات لمسؤول حكومي من هؤلاء بالذات يتحدث عن متشددين يريدون إقامة إمارة إسلامية، ويتوعدهم إن لم يتوقفوا عن غيهم! دخل الشيخ محفوظ حكومة يوجد فيها علمانيون سنة 1996 لمصلحة بلده فتعجب الإسلاميون من صنيعه، فإذا بنا اليوم نرى التحالفات مع العلمانيين تُصاغ في كل حكومة يقودها الإسلاميون في الوطن العربي، وعلى حساب إسلاميين آخرين في بعض الأحايين. مد الشيخ محفوظ نحناح يده لأصحاب القرار المتعسكرين والقابعين في مواقع النفوذ والتأثير للتعاون معا من أجل مصلحة البلد وإيقاف التردي، وبناء المستقبل المشترك، ولو بالسكوت عن بعض الظلم والفساد وفق رؤية شرعية رصينة فاتُّهم بالانحراف والتحالف مع الطغاة، وحينما أُتِيحت الفرصةُ لبعض الإسلاميين فعلوا ما فعله، بل وراحوا في ذلك أبعد، وهم على درجة أعلى من التمكين. قدم الشيخ محفوظ ورجاله المرأة للمناصب الرسمية وجعلوا منها نائبا لرئيس المجلس الشعبي الوطني فكاد يسفهه بعض الإسلاميين الذين هم من مدرسته. وها نحن اليوم نرى المرأة الإسلامية تغزو البرلمانات والحكومات ويُعد ذلك إنجازا كبيرا عند من لاموا الموقف بالأمس. طرق الشيخ محفوظ أبواب العلاقات الخارجية مع الأجناس كلها والقوى الدولية بأجمعها وشجع رجاله على ذلك بلا تحفظ، فاتهمه بعض قادة التيار الإسلامي المرموقين بأنه يخوض في الشبهة ويجلب لنفسه التهمة، فإذا بهم اليوم جميعا يجلسون مع الفرنسيس والأمريكان والإنجليز والألمان وغيرهم ويتحدثون معهم عما كبر شأنه في الحكم والسياسة. اعتمد الشيخ نحناح أسلوب اللين والتنازل في حديثه وموقفه ضمن ميزان قوة لم يكن في صالحه، أقصى ما كان يريده هو المحافظة على الوجود والبقاء في ساحة العمل وصيانة الفرصة ولو بعد حين، فقيل عنه بأنه عديم الشجاعة ومنبطح الهامة! فإذا بالإسلاميين اليوم يقدّمون التنازلات تلو التنازلات في المغرب وتونس ومصر وليبيا واليمن ضمن موازين قوة تعضدهم، ثم يُعتبر ذلك حكمة وكياسة! ناضل الشيخ محفوظ من أجل الديمقراطية والحرية والحلول الانتخابية فنعته البعض بالابتعاد عن الهداية والمروق عن الجادة فإذا بالسباق لتأسيس الأحزاب والتنافس على المجالس يدخل التيارات السلفية والجماعات الجهادية.
هذه أمثلة خطرت على الذهن يمكن أن نذكر مثلها الكثير، ومما استوقفني أثناء تخيلها في عجالة فكرية عابرة تغاير الموقف في القضية الفلسطينية حيث لم يتنازل الشيخ محفوظ قيد أنملة في أحلك الظروف التي مر بها عن الحق الفلسطيني. رأيته وسمعته بنفسي في داخل الوطن وخارجه، مع الأمريكان في ديارهم، والفرنسيس في بلدهم، والإنجليز في ربوعهم، يتحدث بكل صراحة ووضوح بأن الصهاينة محتلون لا حق لهم في فلسطين، وأن فلسطين ستتحرر يوما ما كما تحررت الجزائر ولو بعد طول زمن. وغيره اليوم من بعض الإسلاميين الممكنين يسارعون للتعبير عن مواقف باهتة بخصوص فلسطين لا يتحملها الضمير ولا يتقبلها زخم الثورات العربية الشاهدة. وإني لآمل أن ينظر الإسلاميون إلى الموضوع نظرة مبدئية تضمن المصلحة كلها للإنجازات التي حققوها إذ داء المنطقة إسرائيل ومن تلوث بهذا الداء -ولو بحسن نية- هلك. وهم لا شك سينتبهون بعد دهشة النصر الأولى وصعوبة الموقف الصادم… هكذا نحسن بهم الظن ولا نزكي على الله أحدا.
إن تطورات الموقف لدى التيار الإسلامي أمر طبيعي إن كان يُراد به وجه الله ومصلحة الأوطان حقيقة، وإن كان موزونا لا يذهب بعيدا في الحسابات السياسية الحزبية والشخصية، ولكن السبق لمن سبق ومن سبق يجب أن يذكر سبقه ويُستنَّ بعمله خصوصا إن لم يبق من الأحياء كأمثال الشيخ محفوظ– رحمه الله– لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة كما قال ابن عباس.