-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشّيخ محمد المسعود الشّابي.. خصالٌ ومناقبٌ

الشّيخ محمد المسعود الشّابي.. خصالٌ ومناقبٌ

 تلمع في كتاب: “مناقب الشيخ محمد المسعود الشابي” أسماء أربعة تجاور ذكرها على صفحة غلافه الأول رغم الفاصل الزمني الطويل الذي يفرق بين اسمي الأول والثاني من جهة أولى، واسمي الثالث والرابع من جهة أخرى. والكتاب مخصص للحديث عن مناقب الشيخ محمد المسعود الشابي (1562ـ 1618م)، وواضعه هو نجله الشيخ علي بن محمد المسعود الشابي (1591ـ 1663م). أما محققه فهو الأستاذ عبد الله الشابي. وتولّى مراجعتَه والتقديم له صاحبُ القلم الكفء المدرار الدكتور علي الشابي. وناشر الكتاب هو “جمعية الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية” التي تهتمُّ بإحياء التراث العلمي والثقافي في أرض تونس ونشره.

لا أريد أن أبدأ بالوقوف عند واضع الكتاب الذي يكفيه شرفا ومجدا رفع درجة البر بوالده والإحسان إليه إلى مرتبة أسمى بعد أن خصه بكتاب عرض فيه خصاله ومناقبه كعالم دين. ولكن، لا مناص من الإشادة بما بذله الأستاذ عبد الله الشابي الذي صرف جهدا مشكورا في تحقيق هذا الكتاب التراثي الثري، وبعثه إلى النور في حلية قشيبة مجلوّة. ورغم تكوينه العلمي كمتخصص سام في الإعلامية المطبقة للجيولوجيا، إلا أنه أبرز تمكُّنا ودراية ومعرفة بأصول العمل الأكاديمي الذي قام به، وأثبت فعلا أنه عضوٌ نشط في الجمعية المعلنة التي كان أحد مؤسسيها.

زانت المقدمةُ التي كتبها الدكتور علي الشابي القدير الكتابَ وزينته، وزادت محتواه قيمة. وقد سطرها بأسلوب أدبي رشيق ورفيع، وملأها بعبارات بديعة منتقاة جمع لها مغريات استهواء القراء والسير معها من دون ملل أو سأم حين سكبها في السطور. وأغناها بحمولة من المعلومات التاريخية تثبت أنه أحد كبار المحدّثين الأمناء عن تاريخ عائلة الشابية، ومن الأوائل الذين يحق له الخوض في مرافقتها الدينية والاجتماعية والسياسية لمسيرة تونس على امتداد عدة قرون.

توسّع الدكتور علي الشابي وأفاض في سرد مسار الطريقة الصوفية الشابية منذ لحظة ميلادها، وتوقف قليلا عند صاحب الكتاب وعند والده، وأورد جوانب من مسيرتَيْ حياتهما المتكاملتين. واستعمل دقته وحنكته في الوقوف على الاسم الصحيح للطريقة التي أخلصا لها النية وخدماها بصدق العارفين، وبذلك يكون قد خلّصها من الخلط والمزج في التسمية الذي وقع فيه بعض من تحدثوا عنها من المؤرخين.

من الفوائد المعرفية التي يجنيها القارئ المهتم والمتابع من مقدمة الدكتور علي الشابي هو أن الطريقة الشابية التي أسسها الشيخ أحمد بن مخلوف الشابي (1431 ـ 1499م) في مدينة القيروان سنة 1474م، هي طريقة تونسية صرفة المنشأ وخالصة المنبت ونقية الأرومة. وهي من الطرق الصوفية الأسبق ظهورا في المغرب العربي، فقد سبقت، على سبيل المثال، الطريقة الرحمانية التي بعث بها إلى الوجود في منطقة القبائل سنة 1774م والطريقة التيجانية التي تأسست في عين ماضي بالجزائر سنة 1837م. وتمكنت الطريقة الشابية من أن تبني لنفسها كيانا ظريفا مستقلا تماما عن الطريقتين السائدتين زمن ظهورها، وهما الشاذلية والقادرية. ورفضت أن تلبس لبوسهما، وتكتحل بإثمديهما، وامتنعت عن محاكاتهما في فلسفة النظرة وفي رؤية المسلك. ودافع أوائل علمائها عن خصوصيتها. واستطاعت أن تكتسح الساحة، وأن تعمّ جناحي الوطن العربي وتتجاوزهما في زمن قصير نسبيا بفضل التزام المنتسبين إليها ونشاط مريديها الملتزمين. فقد انتشرت بسرعة في تونس والجزائر والمغرب وليبيا ومصر وبلاد الشام واليمن وتركيا، وهذا ما عجزت عنه مثيلاتها الأخريات. ولعل سرٌّ ذلك عائد إلى نظرتها إلى الوجود والواقع، ونقاوتها من الخرافات والاعتقادات الباطلة، وانسياقها في درب سني سليم لم تصبه أوهام الأباطيل والمفسدات التي ترفضها الفطرة والعقل. وقد أدى الشيخ محمد المسعود الشابي، وهو الشيخ الثامن الذي تولى زمام قومها، دورا عظيما في التنظير لها وفق منظور عقيدي منزَّه عن التدليس وبعيد عن الانحراف. ومن مزايا الطريقة الشابية قيامها بالمزاوجة في لطف والجمع في ائتلاف بين الإيمان الصوفي والنضال السياسي والفعل الحربي. وهذا ما افتقدته كثير من شقيقاتها الأخريات بسبب طغيان الروح الاستسلامية المستشرية في قلوب أتباعها، والزهد السلبي الانكفائي في الحياة، وقصور النظر إلى قوة التأثير الجمعي، والاكتفاء بإعداد الفرد المنتسب إليها إعدادا انعزاليا منكمشا يقتل فيه مقوّمات الطاقة الحركية ويفني في جسمه الطموح لبلوغ مرتبة القوة التغييرية المطلوبة.

من ابتكارات الطريقة الشابية غير المسبوقة، فيما أعلم، وهي من منجزات الشيخ علي بن محمد المسعود الشابي الذي استخلف والده، تأسيس “بيت الشريعة” لخدمة قبائل البدو المتنقلين وتخليصهم من ظلمات الجهل وإشاعة نور العلم بينهم. وعن مزايا “بيت الشريعة” يقول الدكتور علي الشابي ما يلي: (إن تأسيس صاحب المناقب لـ”بيت الشريعة” يمثّل نقمة حاسمة، ليس في تاريخ الطريقة الشابية وأوضاع القبائل فقط، وإنما في تاريخ التعليم والإدماج الاجتماعي كذلك؛ فمن خلالها انتقل التعليم إلى مواطن القبائل بعد أن كان خاصّا بالحواضر، فتخرَّج به دعاة وقضاة أزاحوا التردد وأشاعوا الهداية ورسّخوا القيم، وجددوا شباب الإسلام. كما أدى المد التنويري الذي زخرت به هذه المنشأة إلى توثيق العلائق  بين القبائل فخفت حدة التعصب القبلي، وانكفأت الغارات المتبادلة…). (ص: 13)

لم ينس المحقق الأستاذ عبد الله الشابي الإشارة إلى علاقة الوصل بين تونس والجزائر من خلال الطريقة الشابية التي زادت هذه العلاقة توطيدا. وذكر أن صاحب الكتاب الشيخ علي بن محمد المسعود الشابي (1591ـ 1663م) ولد في “تيزقرارين” بالأوراس القريبة من مدينة ششار التي تتبع حاليا ولاية خنشلة في الشرق الجزائري بعد أن وفد إليها آل الشابي إثر سقوط الإمارة التي أقاموها على الأرض الممتدة من قفصة إلى تخوم ولاية بسكرة. وتلقى تعليمه الأول في قرية “الزاوية” القريبة من ششار على يد والده. وشرع في قرض الشعر باكرا. ولفظة “تيزقرارين” لفظة صميمة من اللهجة الشاوية التي يتواصل بها سكان تلك المنطقة، وتعني صفة ثابتة تدلّ على العلو والشهوق، وربما تفيد أن المكان متميزٌ بتضاريس عانقت عنان السماء، أو أنه يحتضن عناصرَ بيئية كالأشجار فاقت في ارتفاعها ما جاورها. ولما تصلّب عود الشيخ علي، أرسله والده، بعد أن وثق في إمكاناته وتيقن من حدة ذكائه وأصبح معجبا به، أرسله إلى الجنوب الشرقي الجزائري المتاخم للمنطقة التي يقيمون بها سنة 1610م. وأوصلته قدماه ومن معه إلى وادي سوف ووادي ريغ.

من الشهود من يذكر أنه شارك الشيخ محمد المسعود الشابي في تجديد مرافق مسجد العدواني سنة 1596م حين قدومه إلى منطقة وادي سوف، وساهم في بناء مسجد الشابي في قمار سنة 1597م، وفي بناء مسجد المسعود الشابي في مدينة الوادي سنة 1600م. وفي هذه المناطق، حقق الأب والابن ثورة تنويرية تصحيحية متكاملة خلَّصت العقيدة من شوائب كثيرة ونظفتها من الأدران التي علقت بها من خلال الممارسات المعلولة التي لا تمتُّ إلى الدين الحنيف بأدنى صلة. ولقيا القبول والمناصرة وحسن الاستجابة والدعم من طرف أهالي المنطقتين.

من مزايا الطريقة الشابية قيامها بالمزاوجة في لطف والجمع في ائتلاف بين الإيمان الصوفي والنضال السياسي والفعل الحربي. وهذا ما افتقدته كثير من شقيقاتها الأخريات بسبب طغيان الروح الاستسلامية المستشرية في قلوب أتباعها، والزهد السلبي الانكفائي في الحياة، وقصور النظر إلى قوة التأثير الجمعي، والاكتفاء بإعداد الفرد المنتسب إليها إعدادا انعزاليا منكمشا يقتل فيه مقوّمات الطاقة الحركية ويفني في جسمه الطموح لبلوغ مرتبة القوة التغييرية المطلوبة.

تعرضت توطئة الكتاب التي دبجها الأستاذ عبد الله الشابي إلى ضبط مضمون متن كتاب: “مناقب الشيخ محمد المسعود الشابي”، وبصدد ذلك قال: (تناول هذا العمل سيرة العارف بالله سيدي محمد المسعود الشابي، الشيخ الثامن للطريقة الشابية وصاحب الثمانية عشر تأليفا في الفقه والتصوّف وعلم الكلام، وذلك من خلال السيرة التي ألَّفها علي الشابي بشأن مناقب أبيه الشيخ محمد المسعود، وهي تقدِّم في ذات الوقت معطيات متنوعة عن المشهد الثقافي والاجتماعي في إفريقية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر). (ص: 39). وأمَّا المخطوطة الأصلية التي تعدُّ سند هذا الكتاب، فقد قال عنها: (إن المخطوطة الأصلية لهذا الكتاب، وهي المكتوبة بخط المؤلف تقع من ثلاث وستين صفحة من القطع المتوسط. والنسخة من هذا الأصل هي المعتمدة، وهي في حالة حسنة، تحتوي على تسع وعشرين صفحة من الحجم الكبير، معدل عدد الأسطر في الورقة اثنين وثلاثين سطرا، نوع الخط فيها مغربي واضح، قام بنسخها الشاعر الشيخ عامر بن محمد الصالح الشابي بتاريخ الخامس من ذي القعدة 1316هـ، الموافق للخامس والعشرين مارس 1899م عن المخطوط الأصلي. والنسخة من كناش للشيخ عامر، وهي تبدأ بصفحة ست وستين وتنتهي بصفحة ثلاث وتسعين. وتشتمل المخطوطة على مقدمة وسبع أبواب وخاتمة، ولا يوجد منها إلا المقدمة وأربعة أبواب وثمانية أسطر من الباب الخامس وهو ذكر مصنفاته). (ص: 58)

يبدأ الكتاب بعرض تعريفات لمفاهيم الوليّ والولاية والكرامة قتلها المؤلف حديثا وشرحا مفصلا. وخصّص الباب الأول منه في ذكر مولد الشيخ محمد المسعود الشابي ووفاته. في حين، يحيط الباب الثاني بذكر مشايخه الذين أخذ عنهم، وشرب من رحيق علومهم، وارتوى منها. وأما الباب الثالث، ففيه ذِكرٌ لنسبه وما جرى عليه من الفتن والامتحان مع صبره وصفاء صدره، وفي هذا الباب يذكر ما يلي: (ونسبة مشايخنا تارة للقبيلة وتارة للبلد. أما القبيلة فهُذَيْل، قبيلة من قبائل العرب. وأما البلد فالشابة، وهي قرية من قرى الساحل تُنسب طائفة الشابيين إليها؛ لأن الجد الصالح خرج منها، وإليها ينتسب، فصارت أولادهم كلهم ينتسبون إليها). (ص: 122). وأفرد لبعض كرامات الشيخ محمد المسعود المكنى بـ”أبي زمام” الباب الرابع للحديث عنها. وختمت هذه الأبواب بباب خامس مبتور للأسف كما ذكر سابقا، وهو موضوع في الأصل لذكر مصنفاته وتآليفه. وذيّل الكتاب بمرفقات تكميلية رأى محققه ضرورة تثبيتها، ومنها طائفة من الأشعار المدحية الصوفية ومصنف يحمل صورا لمعالم أثرية ودينية لها صلة بتاريخ الطريقة الشابية الميمونة في كل من تونس والجزائر.

أثنى صاحب مقدمة الكتاب الدكتور علي الشابي  ثناء جميلا على محقق الكتاب الأستاذ عبد الله الشابي الذي وُفّق في استثمار وقته وتكريسه في عمل نافع خدمة للتراث بعد إزاحة الغبار عنه، وبعث الحياة فيه من جديد، وإزاء ذلك كتب شهادة اعترافية قال فيها: (لقد بذل الأستاذ عبد الله الشابي جهودا مشكورة في سبيل تحقيق الكتاب، فهو إضافة حقيقية إلى الكتب التي أصدرتها جمعية الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية). (ص: 38)

هنيئا لمحقق الكتاب الأستاذ عبد الله الشابي هذا الإنجاز العلمي البديع، وهنيئا للجمعية الشابية الرائدة هذه الإضافة التي من حقها أن تتباهى بها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!