-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصنمية الفكرية.. أعتى صنميات هذا العصر

محمد بوالروايح
  • 1787
  • 5
الصنمية الفكرية.. أعتى صنميات هذا العصر
أرشيف

ترتبط “الصنمية” في أذهان كثيرين بصورتها المادية التي تتجلى في الأصنام التي اتخذها الجاهليون أربابا من دون الله والتي عمرت ردحا من الزمن إلى أن انتهت وانتهى عبادها غير مأسوف عليهم بعد أن انتشرت  أنوار الهداية التي كسرت أغلال العقل وأعادت الإنسان إلى الفطرة التي نكص عنها طوعا أم كرها.

 للصنمية في الحقيقة صور أخرى غير هذه الصورة المادية، ومنها الصنمية الفكرية في صورة الآراء الفكرية التي يحاول من يتولونها ويتبنونها من الأتباع تقديمها على أنها قمة الفكر ومنتهى النظر، وقد يغالي بعضهم أكثر من ذلك فيحيطونها بهالة من القداسة لا تنبغي إلا لأهل الرسالة تجعلها منزهة عن الخطأ لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

إن الصنمية الفكرية حقيقة واقعة وإن حاول بعض المنكرين التهوين من شأنها، أو تفسير تعصبهم لبعض الآراء على أنه مجرد إقرار بمقومات التفرد التي تميز هذه الآراء من غيرها، أو تبرير تعصبهم على أنه ليس إلا شكلا من أشكال التعبير عن الولاء لفكر معين وهو أمر مشروع ليس في الأدبيات الفكرية ما ينفيه أو يجافيه.

إن الصنمية الفكرية هي أعتى صنميات هذا العصر، فما المعارك الفكرية التي تحدث في ساحة الفكر الإسلامي عن علم وعن غير علم في الغالب الأعم إلا دليل على ذلك، بل إن الصنمية الفكرية في الراهن قد تحولت إلى عصبية فكرية مقيتة من حصادها النكد التعصب الأعمى لفكر معين والتحامل على الفكر الآخر ومعاملة أهله على أنهم مخالفون بدرجة أهل الذمة أو يكادون.

كتب حسن بن علي الجزيري لموقع “مركز النور” مقالا قيما عن “الصنمية الفكرية”، لخص فيه الآثار السلبية للصنمية الفكرية التي تكرس الجمود عند أفكار معينة والحرص على التقليد ورفض التجديد، حيث يقول في هذا الصدد: “الصنمية الفكرية هي تلك الهالة القدسية التي يصنعها البعض حول بعض رجالات المجتمع من رجال دين وساسة وأدباء ومفكرين. تلك الصنمية التي لا يمكنها أن ترتقي بالمجتمع بقدر ما تهوي به إلى مستويات سحيقة من الجمود والتحجر عند أفكار معينة، وتولد فيه حالة التقوقع نحو فكر معين ورفض غير مبرر للأفكار الأخرى، دون أن يكون هناك أي إعمال للفكر، بل قد يتعدى هذا الأمر إلى محاربة تلك الأفكار واعتبارها عدوا، قبل أن تدرس الفكرة وجوانبها، وقد يرمي بعضهم البعض بالسفاهة وعدم الوعي”.

ليس في نصوص الإسلام -فيما فيه مجال للرأي- ما يضيق بالرأي مما يصنفه العلماء في باب الآراء الاجتهادية، وليس في نصوص الإسلام ما يعدّ الرأي خطيئة تقتضي العقوبة، بل إن المؤرخين والمحققين يقولون إن دائرة الرأي في الإسلام أكثر من نظيراتها في غيره من الأديان، والدليل على ذلك المدارس الفكرية الكثيرة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، وليس في نصوص الإسلام ما يوجب التعصب للرأي كائنا ما كان وكائنا من كان صاحبه، فليت الذين يتعصبون للآراء والأشخاص ممن يدَّعون وصلا بالسنة وينفونها عن غيرهم من أهل القبلة يدركون بأن أهل السنة ليس لهم متبوعٌ يتعصبون له إلا صاحب السنة المعصومة صلى الله عليه وسلم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يُؤخذ من قوله ويُترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم” .

أليس من الصنمية الفكرية أن يغالي بعضهم في مدح إمام من الأئمة فلا يُسأل في مسألة عظمت أم صغرت إلا هرع إلى الاستدلال بأقواله وكأنها تنزيلٌ من التنزيل ويدع ما هو مأمور شرعا بالرجوع إليه في كل صغيرة وكبيرة مما ورد في قوله تعالى: “فلا وربُّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما”، وفي قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”؟

أليس من الصنمية الفكرية أن يغالي بعض الأتباع في مدح شيخهم فيجعلونه عقلا جامعا لا يُشقُّ له غبار ولا يدانيه أحد في علم الرواية والدراية وأنه أمهر في فقه النصوص وأعلم بأصول التأسيس وأحق بوراثة علم ابن باديس؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن تُملأ صفحات بعض الشيوخ بسيل من العنتريات التي ترفعه إلى أعلى علِّيين وتنزل مخالفيه إلى سجين، وتباهي بمؤلفاته الغزيرة في علوم الدين التي يعجز أقرانه على أن يأتوا بمثلها؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يبالغ آخرون في إطراء دعاتهم فيبررون زلاتهم ويتجاوزون عن هفواتهم في الوقت الذي يعرُّون فيه صفحات غيرهم ويشهِّرون بهم في كل ناد؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن ينصِّب بعض الأتباع متبوعهم مرجعا في كل شاردة وواردة فينقلون عنه ما يقول على علاته ولو كان هراء لا يتفق مع مبادئ العقل؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يدَّعي بعض الأتباع أن مفكرهم الفلاني قد أحاط بعلوم الأرض وعلوم الكون مع أن الرجل أطنب في التقليد ولم يأت بالجديد، بل إنه ربما قلَّب علوم الأرض وعلوم الكون رأسا على عقب وأفسد نظرية الإدريسي وغيره من فطاحل العلماء عن جهل قاصد أو علم قاصر؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يتشبَّث بعضهم بالأضاليل والأباطيل ويتوارثونها جيلا عن جيل، فقط لأنها من صنع أئمتهم في الفكر في حين يحكمون على مثيلاتها من غيرهم على أنها “قرين الكفر”؟ .

أليس من الصنمية الفكرية أن يبخس بعض العباقرة والنوابغ في ميادين الفكر المختلفة حقهم وترتفع في المقابل أسهم من هم دونهم، فقط لأن معادلة الولاء الفكري المختلة تقتضي ذلك في الزمن الذي اختلت فيه الموازين وساد فيه الرويبضة؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يناصب بعضُ الجزائريين أعلامَ الجزائر وفقهاءَها العداءَ في الوقت الذي يشيدون فيه بغيرهم ولو كانوا من تلاميذهم ومريديهم؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يهيل بعض الجزائريين التراب على التراث الفكري الجزائري فلا يتعاملون معه ولا يرجعون إليه إلا من باب “فإن لم تجدوا ماء فتيمموا”؟.

أما آن للصنمية الفكرية أن تنتهي كما انتهت الصنميات التي سبقتها فنقدِّم من قدَّمه الفكر ونؤخِّر من أخَّره الفكر؟

هذا هو السبيل لحل أزمة الفكر الإسلامي التي طالت واستحكمت وربما استحالت.

ليس في نصوص الإسلام ما يضيق بالرأي مما يصنفه العلماء في باب الآراء الاجتهادية، وليس في نصوص الإسلام ما يعدّ الرأي خطيئة تقتضي العقوبة، بل إن المؤرخين والمحققين يقولون إن دائرة الرأي في الإسلام أكثر من نظيراتها في غيره من الأديان، والدليل على ذلك المدارس الفكرية الكثيرة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • محمد

    "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة 31)
    -عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " سورة براءة "، فلما قرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله)، قلت: يا رسول الله, إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت, ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه, ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه.

  • ساسي جاري

    كما ان للشعب الجزائر لغتان رسميتان الامازيغية وهي لغة اهل البلد الاصليين الشرعيين الامازيغ الاحرار واللغة العربية لغة لوافدين الي بلادنا من المشرق العربي من الجزيرة العربية
    كما ان الجزائر لها حرية تدريس باقي لغات العالم الاخري بمدارسها وجامعاتها كالفرنسية -جزء من ثقافتنا الجزائرية - والالمانية والاسبانية والانجليزية ...........

  • ساسي جاري

    نحن نقول لكل العالم ان الجزائر دولة حرة مستقلة جمهورية ديموقراطية شعبية تحترم كل الاديان -يهودية مسيحية اسلام بوذية ......- وكل الاعراق والاجناس -يهود فرنجة صينيين عرب امازيغ .....افارقة - ببلا تمييز عنصري ولا احتقار للاخر ولا ظلم ولا غدر ولا خيانة الكل سواسية امام قوانين الجمهورية والدستور
    الجزائر ترحب بالجميع كما ان الجزائر لا اعداء لها في هذا العالم بل هي في بحث دائم عن اصدقاء جدد

  • المجد والخلود للقراصنة

    في الواقع يا استاذ الكل مدفوع في تأكيد افكاره الصنمية البشر ليسوا نزيهين ولكنها الحاجة دائما لان تكون على صواب او الجدل المرائي وكلمة المرائي مشتقة من الرياء وهي اظهار عكس ما يبطن فعندما نقول الجدل المرائي فيكون القصد هو الجدل المدلس وهو تعبير اطلقه شوبنهاور ان ما يهيمن هو اثبات الذات والكبرياء الفطرية ونحن بحاجة للدفاع عن قضايانا ودحض قضايا الطرف الاخر وتجريده من اسلحته انه فن ان تكون دائما على صواب

  • كسيلة

    إن صنمية الفكر سبب في التخلف وتراجع مجتمعاتنا،انه يشل الفكر ويعطل عمل العقل،مرض يصيب الإنسان غير الواعي، والصنمية أيضا يا أستاذ كانت وراء الدين المتوارث من غير علم ومعرفة، يقول المفكر الفرنسي فولتير "إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع"، والمطلوب لا ان يكون كل المجتمع مفكرين ولكن يجب ان يتدبروا ولا يعيشوا التبعية العمياء ونثور لكي نهدم كل الأفكار الخاطئة المتعشعشة في داخلنا، ينقل عن جيفارا "يقولون لي أذا رأيت عبدا نائما فلا توقظه لئلا يحلم بالحرية، أقول لهم أذا رأيت عبدا نائما أيقظة وحدثه عن الحرية.