-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصورة وتحولات الوعي

الصورة وتحولات الوعي
ح.م
إعلام المقاومة

لايختلف المؤمنون بالنسق الإنساني، على اختلاف دياناتهم وأعراقهم، على أن الحرب منبوذة ومأساوية في كل حالاتها؛ لكن المقارنة بين سلوك الغرب وازدواجية معاييره في التعامل مع ما يجري في غزة وقبلها في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يجعلنا ندرك أن هناك فرقا لاتخطئه العين ويشكل برزخا في التعاطي الغربي مع هذه الحروب، مع وجود إختلاف أيضا في تعامل “العالم المتحضر والديمقراطي” مع الشعوب التي تكتوي بنار جحيمها، بل إنا نلحظ ببداهة، التفاوت الحاصل في حجم الدمار وعدد الضحايا و كثافة التعاطف في كلتا الحالتين، والشاهد أن الحرب التي تدور رحاها فوق الأرض الأوكرانية، رحيمة جدا مقارنة بالحروب التي سُعِّرت في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وراهنا في غزة، أين تعرضت فيها الشعوب(المدنيون) إلى عمليات حصار جائر و قتل بربري وإبادات ممنهجة وعنيفة بكل أنواع الأسلحة والترسانة الحربية المدمرة، دون أي وازع إنساني أو امتثال للقانون الدولي والتحريمات المعيارية؛ وفوق ذلك، استهدفت الحواضر العربية والإسلامية بقصف وحشي مدمر دكها دكا، وأحالها إلى يباب وأثر بعد عين؛ بينما في الحرب الأوكرانية، لم يحدث فيها ربع ما شاهدناه في غزة، فالغرب جيوبوليتيكيا، قد يلجأ إلى أكل بعض أطرافه إذا جاع، أما إذا أصابته المجاعة، فإنه لا يتردد في أكل معظم البلدان العربية والإسلامية، كأنه وحش لاحِم، لأن مبعث حروبه كان على الدوام دينيا.
زيادة على ذلك، شاهدنا كيف كان الفيض والغمر الإعلامي غزيرا بشكل لا يوصف، وضخا معلوماتيا دون توقف، من خلال أعداد لا تحصى من فيديوهات التنكيل والقصف والخراب و الإبادة وقطع الرؤوس والغزوات والغارات والإعدامات الميدانية، وكان ذلك ممنهجا أيضا يتغيا تعميم الخوف في المنطقة و”إماتة الحياة” في روح شعوبها وتشويه صورة الإسلام وتجذير صورة نمطية عنفية عن المسلمين، وجعلهم يعيشون أجواء الحرب والرعب والشعور بسيكولجية المحارب من خلال الشاشات، بينما لا تسمح المنصات الاجتماعية والإعلامية بمثل هذا المحتوى، وتفرض قيودا صارمة ومشددة على أي محتوى عنيف في حرب أكرانيا، باستثناء نزر قليل لا يورث أي صدمة وجدانية للمشاهد.

🔹سجناء الشاشات:
توصلت دراسة، أجراها علماء النفس، إلى أن مشاهدة صور الحروب والقتل، تجعل المشاهدين ينتابهم نفس شعور المحاربين بعد المعركة، بل وتؤثر عليهم بتأثيرات صحية وعقلية خطيرة، وهذا يعني، أن الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى الألعاب اليوم، كلها تفرض عليك الإنخراط في الحرب ومعايشة تفاصيلها، وإن كانت ساحاتها تبعد عنك آلاف الأميال، وهذا ضمن الحرب النفسية الموازية.
إن العالم اليوم أضحى منظورا إليه لا مفكرا فيه، بعدما تجاوز باراديغم الصورة باراديغم العقل وأصبح مهيمنا على العصر الراهن الذي نعيش فيه، كنتيجة لتعاظم وتغلغل الميديا و ومواقع التواصل الاجتماعي في حياة الناس، الذين يقضون 60% من وقتهم على النت في تصفح هذه المواقع والتعرض لمحتوياتها، لاسيما الصور و مقاطع الفيديو، التي باتت حاملا مهما واستيراتيجا في تشكيل وتوجيه الرأي العام، فالصورة اليوم ، على رأي المفكر الفرنسي “ريجيس دوبري”، توفر قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله، على اعتبار أن معظم معرفتنا الحسية، والتي يقدرها العلماء بـ 80% نستقيها بصريا، والشاشات اليوم لها كل المقومات للاستحواذ على انتباهنا وتزويدنا بالمعارف والمعلومات والأخبار، التي تشكل في نهاية المطاف وعينا وإدراكنا لمختلف الأحداث والقضايا و الأشخاص، لذلك تأتي مقاطع الفيديو في صدارة المحتوى الرقمي الذي يشد انتباه الناس بشكل عجيب على منصات التواصل الاجتماعي، أكثر بـ 05 مرات من الوقت المخصص لمشاهدة المحتوى الثابت.

🔹 نهاية الهيمنة الإعلامية والبصرية:
تبعا لذلك، فالصور المنفلتة من هيمنة الميديا الفائقة ومن مركزية التأثير والتحشيد الإعلامي، لاسيما ذلك الآتي من “جحور” وزارة الدعاية الصهيونية التي تعرف اختصارا باسم”الهاسبارا”، مع كل امتداداتها في مختلف وسائل الإعلام، كشفت للرأي العام العالمي حقيقة مغايرة وسردية مختلفة عن تلك التي شكلت وعيه وصنعت تحيزاته وتمثلاته منذ عقود طويلة،اتجاه المسلمين و حول ما يجري في فلسطين وفي غزة تحديدا، وكشفت بالحقائق المثبتة، الطبيعة الإجرامية و اللاإنسانية للكيان الصهيوني المحتل، فكانت المظاهرات والمليونيات التي خرجت في كل أصقاع العالم، لا سيما في العواصم الكبرى، ثرجمة صادقة عن هذا الوعي الإنساني الجديد، الذي يقف على النقيض من دعاية وسردية المحتل الصهيوني و داعميه، ويمثل نقلة كبيرة في علاقة الشعوب الغربية بالقضية وطريقة فهمهم للصراع الوجودي في الأراضي المقدسة وأطرافه؛ حيث أشار مركز بحث داخل الكيان الصهيوني، قام بتتبع و تقييم المظاهرات التي شهدها العالم على خلفية عملية طوفان الأقصى، خلال الفترة الممتدة من 07 إلى 23 أكتوبر 2023 ، إلى أن 69% منها كانت مؤيدة للفلسطينيين، بينما لم يحظى الصهاينة سوى بنسبة 31 % من التعاطف العالمي؛ أما بعد هذه الفترة، حسب الدكتور “جان ميرشايمر”، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة شيكاغو الأمريكية، فإن 95% من المظاهرات في العالم كانت مؤيدة ومتعاطفة مع الفلسطينيين في غزة، وهذا يعني ضمنيا أن الرأي العام العالمي تحول ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك النخب في مراكز القرار، حيث خرج الكثير من السياسيين الأوروبيين عن طورهم وأعلنوا وقوفهم إلى جانب الأصوات المنادية بوقف الحرب والإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في حق الغزاويين، وانتقل الغضب على الانحياز الفاضح للاحتلال ودعمه في ارتكاب مجازره، إلى الولايات المتحدة التي عرفت تحركا غير مسبوق ضد السياسة الخارجية الأمريكية والدعم غير المشروط لإسرائيل، بخروج مظاهرات عديدة وضخمة تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة ووقف إمداد الكيان بالذخيرة والعتاد الحربي، لا سيما أن الولايات المتحدة زودت الكيان الصهيوني منذ بدء العدوان على غزة، بما مقداره 10 آلاف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية، كما سيّرت سربا من الطائرات يفوق عددها 200 طائرة من أجل تزويد هذا الكيان بالآليات و المعدات الحربية والطبية، ناهيك عن كتائب من المارينز و المستشارين العسكريين و خبراء الشركات ومرتزقة “بلاك ووتر”، وهو ما دفع بموظفين في إدارة الرئيس “جو بايدن” إلى التظاهر أمام مبنى البيت الأبيض للمطالبة بوقف إطلاق النار، ورفت لا فتات مكتوب عليها”الرئيس بايدن، فريقك يطالب بوقف إطلاق النار”، وقبل ذلك، كان قد استقال مسؤول في وزارة الخارجية يدعى” جوش بول”، بسبب معارضته لتعامل إدارة بايدن مع الحرب بين إسرائيل المقاومة، في حين صار الكثير من السياسيين والخبراء يرون بأن الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل يمثل عبئا استيراتيجيا قد يساهم في زيادة الرفض لسياساتها الخارجية ومشاريعها وكسب أعداء جدد.

🔹المنصات الاجتماعية والصورة الجديدة:
ولأن هذه المعركة التي قوامها الصورة، فقد بات لها دور فاعل في تشكيل وعي الشعوب وتحريره من هيمنة القلة التي تحكم العالم والأوطان، وتسيطر على التدفقات الإعلامية لتضمن ديمومة مصالحها ونفوذها وسردياتها، ولا تتردد لأجل ذلك، في اغتيال أي “كاميرا” قد تشكل تهديدا للصورة الصنمية التي فرضتها، فقد رأينا كيف تم استهداف الصحفيين الذين يغطون الحرب على غزة، حيث تشير إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى مقتل 95 صحفيا منذ السابع أكتوبر الماضي، دون احتساب الصحفيين الذين قضوا برصاص جنود صهاينة قبل عملية طوفان الأقصى خلال تغطياتهم للأحداث والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال في حق الفلسطينيين، وهؤلاء الصحفيون إلى جانب التوثيق المصور الذي دأب الغزاويين عليه إزاء ما يجري بحقهم، هم الذين ساهموا بشكل فعال في إيصال صور مجازر الإبادة الجماعية المرتكبة في غزة للعالم وكشفوا من خلالها الوجه الحقيقي للكيان،رغم التضييق والحجب على منصات فيسبوك وأنستغرام، وقطع الاتصالات والأنترنت على غزة، والضغط على “إيلون ماسك” صاحب منصة(X) أو تويتر سابقا، في حين ظل موقع “تيليغرام” الروسي وموقع “تيك توك” الصيني خارجين عن السيطرة الصهيونية.
كما اكتشفت الشعوب الغربية أيضا، هذا الآخر المسلم الذي تعرض لشيطنة كبيرة من الإعلام الغربي والصهيوني، الذي صوره صورة مشينة وقاسية يفتقد فيها للآدمية و العواطف الإنسانية، كالحب والرحمة والتعاطف، فكانت صور وفيديوهات الجد “خالد نبهان” الملقب بأبي ضياء، بلحيته وعمامته التي تمثل رمزا للإرهاب في المخيال الغربي، بمثابة خلخلة ورجة كبيرة في وعي الغرب، فالرجل الذي كان يحمل جثة حفيدته التي استشهدت في قصف وحشي للطائرات الصهيونية، ويعاملها كأنها نائمة مرددا عبارة “هذي روح الروح هذي”، ساهمت صوره في كسر الصورة النمطية المعتادة وحولت أنظار الغرب إلى القصص الإنسانية في غزة، وحركت الضمير العالمي الذي اكتشف أن هذا “الآخر” يفيض بالمشاعر الدافئة ويتعرض للقهر والظلم ويحتاج للتعاطف والدعم لأنه إنسان كامل الإنسانية.
أما طريقة تعامل المقاومة مع الأسرى والاعتناء بهم، فكانت ضربة قاسمة للكيان ولغيره من الأبواق التي عملت على تصوير حركة حماس بأشنع الصفات، فقد أبانت الصور التي شاهدها جميع العالم، أن الأسرى الصهاينة كانوا في صحة جيدة وتلقوا الرعاية الطبية والمعاملة الحسنة.
لقد اكتشف الرأي العام خلال معركة الصور، زيف السردية الصهيونية و كذب آلتها الدعائية وافتقارها إلى القدرة على الإقناع، فهي لم تنجح في تقديم حقائق مثبتة لادعاءاتها، وفشلت في تمرير صور وأخبار كاذبة لضرب المقاومة وكسب الرأي العام العالمي، أبرزها أكذوبة ذبح رجال المقاومة لأربعين رضيعا وتعليقهم على حبل الغسيل خلال عملية طوفان الأقصى، وهي الأكذوبة التي رددها الرئيس الأمريكي قبل أن يتراجع عنها بعد عدم ثبوت صدقيتها، ولأنها لا تعدو كونها قصة ملفقة وغير مقنعة، إضافة إلى الإدعاءات الكاذبة التي أطلقها الجيش الصهيوني لتبرير قصف وتدمير مستشفى الشفاء وقتل المئات من المرضى والأطقم الطبية بحجة وجود مركز قيادة لحماس تحت المبنى، قبل أن يتم اقتحامه ويتكشف زيف هذه الرواية، ويثبت الكيان أنه كيان قاتل لايعطي أي اعتبار للمشافي ولا للقانون الدولي الذي يحرم استهداف المستشفيات، من خلال استهدافاته المتتالية لمستشفى المعمداني وبقية النظام الصحي في غزة.

🔹خاتمة:
يمكننا أن نخلص في الأخير، أن المقاومة ربحت كليا معركة الصورة واستطاعت أن تصيب الكيان والدعاية الصهيونية في مقتل، فعقل المقاومة الإعلامي ظهر أنه مدهش ومثير للإعجاب، يدير حربا نفسية دقيقة ومحسوبة، ويتوسل بتقنيات واستيراتيجيات غاية في الإبهار، قوامها الصورة الحقيقية والحقائق المثبتة، وجب الحفاظ على هذا التفوق مستقبلا والحدو حدوه في مخاطبة الرأي العام العالمي وكسر الهيمنة الإعلامية التي شكلت لعقود طويلة وعيه وحشرته ضمن السرديات التي تريدها النخب المتصهينة خدمة لأجنداتها ومشاريعها في المنطقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!