-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العالِم زُغمان مبخوت في… “حصاد وبذْر”

العالِم زُغمان مبخوت في… “حصاد وبذْر”

“حصاد وبذر” (Récoltes et Semailles) هو عنوان كتاب صدر بباريس هذا العام في جزءين، أولهما في 862 صفحة وثانيهما في 1408 صفحة. أما الأستاذ زغمان مبخوت فهو من مواليد مدينة المشرية (الجزائر) عام 1948. وقد رحل إلى فرنسا في منتصف الستينيات لمواصلة دراسته هناك، وتخصص في الرياضيات وبرع فيها، فأصبح باحثا من الدرجة الأولى بالمركز القومي للبحث العلمي الفرنسي، وذاع صيته عالميا.

المسؤولية الأخلاقية للعلماء

أما صاحب كتاب “حصاد وبذر” فهو ألكسندر غروتنديك A. Grothendieck (1928-4201) الذي وُلد في مدينة برلين، وخلال الحرب العالمية الثانية فرّت والدته إلى جنوب فرنسا بعد مقتل أبيه، عام 1942، على أيدي النازيين. ولذا اعتبِر غروتنديك ألمانيًا-فرنسيًا. وكان مرتبطا بوالده الذي كان رفيق الزعيم لينين خلال ثورة 1917 الشيوعية. لكن الوالد غادر الاتحاد السوفيتي مهاجرا إلى ألمانيا بعد أن أصبح مغضوبا عليه في موسكو.

عُرف غروتنديك بتمرّده العنيف على كل ما يميل إليه زملاؤه. فعندما حاز على ميدالية فيلدز الشهيرة سنة 1966 رفض استلامها احتجاجا على السياسة السوفيتية. كما منحته أكاديمية العلوم السويدية سنة 1988 جائزة كرافورد Crafoord الشهيرة -والتي يقدر المبلغ المالي المخصص لها بحوالي 300 ألف دولار- غير أنه رفضها أيضا، موضحًا أن راتبه الشهري، كأستاذ، يغطي أزيد من حاجياته المادية وحاجيات من هم تحت كفالته. ثم يلاحظ بأن “الباحثين من الدرجة الأولى الذين تتوجّه إليهم جائزة كبيرة – كجائزة كرافورد- يتمتعون جميعا بمكانة اجتماعية مرموقة توفر لهم رخاء العيش والشهرة العلمية، إضافة إلى السلطات والصلاحيات التي تمنحها إياهم هذه المكانة. ثم يُردف : “أليس من الواضح أن الوفرة المفرطة لدى البعض لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب ضروريات ومستلزمات البعض الآخر؟”.

يعتبر غروتنديك من أكبر الرياضياتيين الذين عرفهم القرن العشرين. ولذا كان من أوائل من وُظفوا في معهد الدراسات العليا العلمية بباريس (IHES) الذي يُعنى بالبحث الأساسي. ويعتبر هذا المعهد أرقى مؤسسة بحث في فرنسا. وعندما علم غروتنديك بأن هذا المعهد يتلقى تمويلا من وزارة الدفاع الفرنسية، استقال من منصبه عام 1970. واتخذ قرارا خطيرا يتمثّل في الكّف عن البحث في حقل الرياضيات، وأسس حركة من شأنها تأكيد المسؤولية الأخلاقية للعلماء إزاء هذا الوضع. وصار غروتنديك ينادي بضرورة إيقاف كل البحوث الرياضياتية لأنها تؤدي لا محالة إلى تطبيقات عسكرية! ومن ثمّ تغيّر مسار حياته رأسًا على عقب.

ذلك ما دفعه إلى كتابة مؤلَّفه “حصاد وبذر” الذى روى فيه مجريات حياته، وانتقد محيطه في مجال البحث العلمي. كان ذلك في الثمانينيات، لكن هذا العمل لم ينشر ولم يوزع منه إلا القليل من النسخ لبعض الزملاء الذين ظلّ يحترمهم. وها قد نشر هذا العام. وقد جاء في العمل نقد لاذع لجلّ الزملاء ولسلوكاتهم الأخلاقية في التعامل مع العلم… فضلا عن تقديم رأيه في كثير من المفاهيم الرياضياتية.

وربما يستغرب أهل الاختصاص عندما يقرؤون في هذا الكتاب النص التالي : “إن أَقَلّ ما يرضيني في كتب الرياضيات عندنا، هو عدم وجود أي تعريف جدّي لمفهوم الطول (طول منحنى)، والمساحة (مساحة سطح)، والحجم (حجم مادة صلبة). ولذا وعدت نفسي بسدّ هذه الفجوة، بمجرد أن يتوفر لدي الوقت. لقد بذلت معظم طاقتي في هذا الموضوع خلال الفترة 1945-1948 عندما كنت طالبًا في جامعة مونبلييه. لم تكن الدروس في الجامعة ترضيني… كان الأساتذة يكتفون بتكرار ما هو موجود في الكتب”. ويسترسل قائلا : “لم أكن أحضر الدروس إلا نادرا، إذ كان الاطلاع على الكتب كافيا لفهم الدروس المقررة. ولكن كان من الواضح جدًا أن تلك الكتب لا تجيب على الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي…”.

غروتنديك يُنصِف العالِم مبخوت

وما علاقة زغمان مبخوت بألكسندر غروتنديك؟ يَعتبر مبخوت أنه تلميذ لغروتنديك، سيما أنهما كانا منشغلان في باريس بنفس المواضيع (التحليل الجبري والهندسة). وكما أسلفنا فإن غروتنديك تعرض بالنقد الشديد واللاذع لزملائه في معظم صفحات مؤلَّفه. ولم يَنْجُ من ذلك إلا النادر منهم. ومن هؤلاء الناجين الباحث زغمان مبخوت الذي لم يطلْه النقد فحسب بل كان محلّ إشادة وإنصاف من قِبل صاحب “الحصاد والبذر”. فقد أتى غروتنديك على ذِكْر زغمان مبخوت في كتابه 168 مرة في الجزء الأول و 483 مرة في الجزء الثاني، أي ما مجمله 651 مرة! وفي هذه الإشارات تنبيه إلى أعمال مبخوت التي نسبت إلى غيره، وإلى الظلم والإجحاف اللذين تعرض لهما هذا الباحث من قبل زملائه في الغرب.

فعندما كان غروتنديك يتحدث عن مفهوم دقيق لـ”الانسجام” (cohérence) سماه “M-cohérence” مبررا ذلك بأنه من الإنصاف أن نسميه هكذا بإضافة الحرف M الذي يشير إلى الحرف الأول في اسم مبخوت.

وفي مكان آخر حول تسمية إحدى النظريات الأساسية في الرياضيات التي توصل إليها زغمان مبخوت، يقول غروتنديك منتقدا فئة الرياضياتيين الغربيين العاملين في هذا الاختصاص : “في حين أنه من المعتاد تسمية النظريات الأساسية بأسماء أولئك الذين أتوا بنصّها وببرهانها، يبدو أن اسم زغمان مبخوت كان يعتبر غير جدير بهذه النظرية الأساسية، التي أتى عليها بعد أربع سنوات من العمل المتواصل والانفرادي (1975-1979). وهذا يتعارض تماما مع تقليد العصر ويحتقر كباره. وفي اليوم الذي بات من غير الممكن تجاهل تلك النظرية، أطلق عليها هؤلاء اسم نظرية ريمان-هيلبرت…”.

وبعد أن أشار إلى حالة النكران التي واجهها مبخوت وعمله الأصيل، قال غروتنديك : “هذا لم يمنع مبخوت من مواصلة أبحاثه في عزلة معنوية مؤلمة”. وقد قدم غروتنديك أسماء أبرز الرياضياتيين الكبار الذين كانوا من وراء هذا الإجحاف تجاه مبخوت.

وفي استعراض بعض أعمال مبخوت، يعبر غروتنديك عن استغرابه في مرور زملائه مرّ الكرام على أعمال مبخوت: “أنا بالتأكيد لم أنته من معرفة ما يجري! لقد تعرفت للتّو على نصّين يلقيان ضوءًا غير متوقع (بالنسبة لي، على الأقل) حول “حجب” عمل مبخوت الذي سبق تناوله”. ثم يشير إلى أسماء الباحثين الذين قاموا بهذه العملية الدنيئة، مضيفا “إنه أمر لا يُصدّق لكنه صحيح، ففي كلا النصين، اختفى اسم مبخوت، كما غاب في قائمة المراجع”… وهذا على الرغم، حسب غروتنديك، من أن صاحبي النصين على دراية تامة بعمل مبخوت.

وقد واصل غروتنديك تقديم مثل هذه الملاحظات المدعَّمة بتفاصيل علمية كلما ذكر اسم زغمان مبخوت… وقد ذكره 651 مرة! ذلك كان حال هذا الباحث القادم إلى باريس من أجل العِلم : فلا شكّ في أن حقه هُضم بين علماء الغرب والعالَم… وليست الجائزة الهزيلة التي قدمها له المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي، ولا الميدالية الباهتة التي التفتت بها إليه أكاديمية العلوم الفرنسية بقادرتين على ردّ الاعتبار لابن مدينة المشرية!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!