الرأي

العبرية.. زهِد فيها اليهودي وأشاد بها الزاوي!

محمد بوالروايح
  • 2303
  • 16
ح.م

وإن تعجب فعجبٌ حديث أمين الزاوي عن العبرية وكأنه ضليعٌ بها، عارفٌ بأطوارها وأدوارها، ملمٌّ بقواعدها.. قرأت لأمين الزاوي “اليهودي الأخير لتمنطيط” الذي تستشف منه خيال الروائي الذي لا يهمه فيما يكتب أن يكون مطابقا للحقيقة بل حسبه أن يكون معبرا عما يجول في فكره وما يعتقده ويؤمن به ولو كان مخالفا للحقيقة.

يكرر أمين الزاوي حكاية “اليهودي الأخير لتمنطيط” فينصِّب نفسه عارفا بتاريخ اللغات حاذقا في الموازنة بينها، بين ما يصلح منها لبناء الحضارة ومواكبة عصر الذرة والمجرة وما لا يكاد يصلح لشيء حتى لكتابة وصفة طبية. إن التعالم مرضٌ نفسي يعاني منه كثيرون، ولعل أمين الزاوي قد أصابه شيءٌ من ذلك؛ إذ كيف لروائي ليس له باعٌ في تاريخ اللغات أن يفتي فيها بطريقة تجعله عرضة للنقد والسخرية؟

لم يقل أحدٌ من علماء اللغة العبرية إنها لغة العلم ولا يستطيعون أن يقولوا ذلك ولو أرادوا، لأن العبرية سواء القديمة أو الحديثة لم تستطع أن تغادر “الجيتو” ولم تستطع أن تجد لها أتباعا وأنصارا خارج الدائرة اليهودية، بل إن بعض اليهود زاهدون فيها، فكيف للغةٍ شهد عليها أهلها بأنها بقيت قروناً حبيسة القصور والدور اليهودية أن تصبح لغة علم؟ إن هذا إلا ابتداعٌ وبراءة اختراع لأمين الزاوي المولع بتناول الموضوعات المثيرة للجدل لعلَّه يستعيد “نجوميته” المفقودة التي ضيَّعها بتجواله الإيديولوجي، فتارة يشرق وتارة يغرب وتارة يظهر بمظهر المدافع عن التراث وتارة يمعن في القدح فيه ويجعله سببا لإخفاقاتنا الحضارية ما ظهر منها وما بطن.

لو كان للعبرية لسانٌ لقالت: “تودا أمين الزاوي”، و”تودا” كلمة عبرية معناها “شكرا” لأنه ربما الشخص الوحيد الذي يشيد بعبرية مغمورة يلفها النسيان كما كان شأن “ملفوفات وادي قمران” قبل زمان. قد يكون من المفيد أن أذكِّر أمين الزاوي بأن علماء اللغات مجمعون على أن العبرية وكتابها ليس فيهما ما يوافق العلم أو يواكب العصر، وهي الحقيقة التي يشهد بها أهل العبرية، فقد نشر “دافيد نيومان” وهو عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة “بن غوريون” مقالا بصحيفة “جيروساليم بوست” بعنوان: ” Borderline Views : Hebrew and the language of Science “، وقد تناول في هذا المقال بعض الآراء الجدلية حول ما سماه الحدود الفاصلة بين اللغة العبرية ولغة العلم، فرغم إقراره من جهة بأن هناك جماعات يهودية محافظة متمسكة برأيها حول قدسية العبرية تماما كقدسية التاريخ العبراني، فإنه يسوق من جهة أخرى رأي العديد من كبار الأكاديميين حول جدلية العبرية ولغة العلم فيقول: “يحاجج كثيرٌ من كبار الأكاديميين بأن نتائج أبحاثنا يجب أن تُنشر باللغة الإنجليزية بدلا من العبرية في أفضل المجلات العلمية ودور النشر التي تتم مراجعتها من قبل الأقران. هذا يفضح مقولة الجودة العالية للبحوث الإسرائيلية على المستوى الدولي. ويضيف هؤلاء الأكاديميون بأنه ينبغي أن لا نضيع وقتنا في النشر بالعبرية وفي دور النشر الإسرائيلية المحلية غير المعروفة نسبيا”.

ويعترف دافيد نيومان بأن الميلاد الجديد للغة العبرية كلغة الحياة اليومية والإيمان بضرورة جعلها واحدة من معجزات العصر طموح يهودي قديم متجدد، ولكنه لا يمكن أن يقفز على حقيقة واقعية، فمهما كان تمسك اليهود باللغة العبرية كلغة توراتية قومية إلا أنهم بحاجة في زمن العولمة إلى إثبات وجودهم والتخلي عن عزلتهم بالانخراط في البحث العلمي بالآليات اللغوية القائمة التي لا تشكل اللغة العبرية جزءا منها، يقول في هذا الصدد: “.. ولكن بالنسبة لإسرائيل فلكي تكون جزءا من عالم العولمة فإنه يجب عليها الموازنة بين ضرورة المحافظة وتقوية الثقافة واللغة المحلية وبين السعي لجعل البحوث فيها ترقى إلى المستويات العالمية وتستجيب للمعايير الدولية. ينبغي أن لا نعزل أنفسنا عن مجتمع المعرفة والأكاديميا إذا أردنا لثقافتنا التوراتية المنبثقة من روح صهيون أن يكون لها أثرٌ عالمي حقيقي”.

و كتب “ناثان جيفاي” مقالا بعنوان “Should Israeli science speak English?” وذلك بموقع Forward.com ، ومن أهمّ ما جاء في المقال:
1- أن أكاديمية اللغة العبرية قد طلبت من وزارة التربية إصدار تعليمة وزارية تُلزم الجامعات الإسرائيلية بتقليل استخدام اللغة الإنجليزية، هذه الأخيرة -كما جاء في المقال- هي التي تُدرَّس بها كثيرٌ من برامج مرحلة التدرُّج، والتي تُدار بها كثيرٌ من البحوث العلمية في إسرائيل، وهذا يعني أن اللغة العبرية لا أثر لها في الحياة العلمية وأنها كغيرها من اللغات عاجزة عن منافسة اللغة الإنجليزية فضلا عن زحزحتها خلافا لما يدعو إليه المحافظون الذين يسبحون ضد التيار ويريدون اختراع مكانة وهمية للغة العبرية في الجامعات اليهودية.

2-في 1890، شكل” أليعازر بن يهوذا”، مهندس العبرية الحديثة لجنة اللغة العبرية وذلك من أجل إحياء اللسان العبري القديم، وبعد قيام “إسرائيل”، حوَّلت الحكومة الإسرائيلية اللجنة التي شكلها “أليعازر بن يهوذا” إلى “أكاديمية اللغة العبرية” التي تتشكل من 23 عضوا و15 استشاريا من الباحثين والكتَّاب والروائيين والمترجمين. لم تلقَ فكرة هذه الأكاديمية قبولا لدى عددٍ معتبر من الباحثين وخاصة في معاهد العلوم الدقيقة بل بثَّت في نفوس بعضهم مخاوف جدية على مستقبل البحث العلمي في “إسرائيل” كما هو الشأن بالنسبة ليهودا باند الذي يدير قسم الكيمياء بجامعة “بن غوريون” إذ كتب قائلاً: “العبرية هي لغة الشعب اليهودي، ولكن إذا كتبتم المذكرات باللغة العبرية ستُدفن”. وأضاف يهودا باند: “إن حث الطلاب على الكتابة بالإنجليزية، لا يضمن لهم فقط قراءة مذكراتهم ونشرها، بل يضمن لهم تدعيم وتعزيز مسارهم العلمي. إن الطالب الذي لا يستطيع الكتابة باللغة الإنجليزية هو طالبٌ محدودُ الأفق المعرفي، إنها لغةُ العلم”.

3- حينما افتتِح المعهدُ الإسرائيلي للتكنولوجيا عام 1913 كان معدّا للتدريس باللغة الألمانية لأن قادته مقتنعون بأن اللغة العبرية ببساطة لا تملك الوعاء اللفظي الذي يسمح لها بتدريس العلوم ولكن ضغط الإيديولوجيا الصهيونية قاد إلى انتصار الجبهة الدينية التي أقرّت العبرية لغة دراسة، وهذا شكلٌ من أشكال صراع العلمي والديني في إسرائيل.

4- في جامعة “تل أبيب” سبعة برامج في مرحلة التدرُّج بما فيها علم الآثار، التاريخ اليهودي والدراسات الشرقية الآسيوية تدرَّس باللغة الإنجليزية، وفي الجامعة العبرية في “القدس” فإنَّ طلبتها يدرُسون على الأقل مادة واحدة باللغة الإنجليزية.
إن اللغة العبرية هي إحدى اللغات السامية التي لم يُكتب لها ولمثيلاتها السموُّ والارتقاء لتكون لغة علم، بل بقيت لغة محدودة مغمورة ومنبوذة في بعض الأحيان على الخصوص من يهود الأشكناز “يهود أوروبا الشرقية” ويهود السفارديم (يهود إسبانيا والبرتغال) الذين نشأوا على اللسان الأوروبي قبل هجرتهم إلى الأرض الموعودة المزعومة.

مقالات ذات صلة