-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

على خطى ديغول.. هل يفرّ نتنياهو وبايدن من ثورة الطلاب؟

على خطى ديغول.. هل يفرّ نتنياهو وبايدن من ثورة الطلاب؟

منذ اندلاع طوفان الأقصى في السابع أكتوبر الماضي، توافقت تقديرات الخبراء الاستراتيجيين على أن الحدث ليس عاديًّا، ولن يكون مجرد واقعة عابرة في مسار الانتفاضة الفلسطينية التي لم تتوقف منذ إعلان “دولة” الاحتلال الإسرائيلي في 1948، بل قبلها مع ثورة القسام ضد الإنجليز خلال ثلاثينيات القرن العشرين.
لقد نظر المحللون في استشرافهم لما جرى، من ناحية أبعاده العسكرية والأمنية الاستخباراتية وآثاره النفسية الاجتماعية داخل الكيان الصهيوني، على أنه محطة مختلفة جذريّا في سياق حركة التحرر الفلسطيني، مقابل غفلة المنبهرين بعقدة التفوُّق الإسرائيلي عن التداعيات البعيدة المرتقبة خارج فلسطين والآثار العميقة التي ستطرأ على مستقبل القضية على مستوى الرأي العام الدولي.
قام مخطط المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى على إعادة بعث الحق الفلسطيني من تحت ركام التطبيع وأوهام السلام والخذلان العربي والتحيُّز الغربي، فكان عليها أن تبادر بنفسها إلى كسر القيد المفروض على الشعب الفلسطيني والحصار المضروب على غزة، ولتُسقط أيضا التهام ما بقي من أرض الضفة بالتوسع الاستيطاني المفتوح، وتحمي حياض القدس الشريف من مشروع التهويد القائم على قدم وساق منذ سنوات.
الكثير لم يستوعب ما أقدمت عليه المقاومة من فعل ثوري في ظل اختلال توازن القوى المادية، حتّى ظنّ أنها لعبة صغار أمام عدوّ باطش، لا يردعه قانونٌ ولا أخلاق ولا مؤسسات دولية، بل توهّموا أن موقفهم الانهزامي هو الحقُّ اليقيني بعدما وقفوا على حجم القتل المريع والخراب المهول في البنى والعمران وتهجير الفلسطينيين من جديد، ثم تساءلوا في دهشة كبرى: أين النصرُ الموعود؟
هؤلاء القوم، الغافلون عن دروس التاريخ في مقارعة الاستعمار ومعجزات الشعوب الحرة في دحر الاحتلال، يعتقدون أن مجابهة الاستيطان العنصري مثل جوْلة كُروية تُسفر عن نتيجتها خلال 90 دقيقة، لذلك يستعجلون في كل كَرّة السؤال عن النصر المنشود، ولا يدرون أنه صناعة تراكميّة على مدى عقود، وقد يمتد في حالات إلى قرون من الكفاح، لأنّ الصراع بين الجانبين وجوديٌّ في أساسه، يسنده اصطفافٌ كونيّ معقد بمصالح مصيريّة متشابكة، وليس عِراكًا طارئًا حول جزر معزولة أو حدود موروثة.
مع ذلك، فإنّ الجيش الذي هتف له المنبطحون طيلة عقود بشعار “لا يُهزم” عجز عن حسم المعركة في مساحة جد محدودة، خلال 7 أشهر من الهمجية الوحشية بمدد أمريكي، بل إنه يتكبَّد يوميًّا مرارة الضربات على يد المقاومين الأشاوس، بسقوط قادته العسكريين الكبار قبل جنوده الصغار، حتى دبّت خلافاتٌ غير مسبوقة وسط الكيان الصهيوني بين السياسيّين والخبراء ومتقاعدي المؤسسة العسكريّة، فضلا عن غليان الشارع الإسرائيلي، حول جدوى اجتياح غزة بكل أجزائها وأهداف نتنياهو الوهميّة حتى الآن.
هذا الاهتزازُ التاريخي في الوجدان الصهيوني، بشأن مصير الكيان وأمن مستوطنيه مستقبلا، من أكبر المكاسب الاستراتيجية التي حصدتها المقاومة مؤخرا، لأنّ الاحتلال قام على تجنيد اليهود نحو “أرض الميعاد”، والآن لن يطول الزمن لتحقّق الهجرة المعاكسة نحو الأوطان الأصلية، تحت وقع سراب الجنّة الموعودة في فلسطين.
أما أكبر إنجاز لملحمة طوفان الأقصى فهو ذلك التحول الدراماتيكي في موقف الرأي العام الغربي، باعتباره الجهة المتحيزة تاريخيّا بمعظم نُخبه وإعلامه ومؤسساته السياسية للاحتلال الصهيوني.
لقد نجحت المقاومة في جرّ الكيان الصهيوني لنسف السرديّة الباطلة التي نسجها الإعلام والفنّ والسينما والساسة والكتّاب و”التاريخ المدرسي” والقوانين الزائفة عن صورة الحق الصهيوني فوق الأرض الإسلامية المقدسة، خلال 76 عاما من الاستيطان العنصري، وأكبر دليل على ذلك هو هذا الاختراق المتقدّم في وعي الجماهير الجديدة من الطلاب والشباب المنتفضين هذه الأيام في عقر الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرها من أصقاع أوروبا، تنديدا بجرائم “إسرائيل” وتأييدا لحقوق الشعب الفلسطيني.
قبل انتفاضة الطلاب، ظلت أوروبا وأمريكا تعيش على وقع المظاهرات الصاخبة من دون انقطاع، للتعبير الصارخ عن إدانة “إسرائيل” وممارسة الضغط الشعبي على الأنظمة لتوقيف الحرب على قطاع غزة، وهو ما ترجمته سلسلة من القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن وباقي الأجهزة الأممية، رغم استخدام الراعي الأميركي لـ”حقّ” الفيتو، لكن ذلك لم يحُلْ دون تلطّخ صورة الاحتلال الهمجي وإسقاط مظلوميّة “الهولوكست” .
لقد وضع الغرب أقسى التشريعات لمحاربة ما يصفه بـ”معاداة الساميّة”، حتى عاقب بها أصحاب الآراء العلميّة والتاريخيّة والسياسيّة والفكريّة المخالفة للسرديّة الصهيونية الزائفة، مناقضًا جوهر الحرية الديمقراطية التي يتغنى بها، ولكُم أن تتخيلوا سجْن قامة فلسفيّة عالميّة في وزن رجاء غارودي، رحمه الله، لرفضه تصديق المحرقة اليهودية.
اليوم انهارت كل السرديّات المفبركة وسقطت القوانين الجائرة وفشل “الفيتو” والقمع الأمني في التغطية على الجريمة الصهيونية، حتى صار الكيان الإسرائيلي منبوذًا أكثر من أي وقت مضى، مثلما اقتحمت القضية الفلسطينية الفضاء الشعبي العالميّ على أوسع نطاق، بفضل المبادرة الثوريّة للمقاومة، بعدما كادت اتفاقات “أوسلو” الواهية و”أبراهام” المسمومة أن تئدها إلى الأبد.
ثورة الطلبة في دول الغرب ضدّ “إسرائيل” مؤشرٌ خطير جدا على مستقبل الاحتلال، سيكون لها ما بعدها، لمن يقرءون تاريخ مظاهرات ماي 1968 ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والإمبريالية الأمريكية والمؤسسات التقليدية، تلك التي أجبرت الجنرال القويّ شارل ديغول على الفرار من فرنسا إلى ألمانيا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!