-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العدل أساس المُلك 

خير الدين هني
  • 2891
  • 0
العدل أساس المُلك 

تتجذّر مقولة “العدل أساس الملك” في الثقافات القديمة ، سواء منها التي استوحت تعاليمها من الفلسفات الدينية، أو التي استمدّت جذورها من الأفكار المادية ذات الصبغة الطبيعية، فاختلاف الفلسفات الروحية والمادية في التنظير للأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمبادئ الأخلاقية، والأبعاد المقاصدية والغائية للوجود الإنساني، يمثل جوهر الحقيقة لكل من الفلسفتين في التأسيس للأفكار والمبادئ والغايات الكبرى التي يسعى الإنسان إليها.

ولكن رغم اختلاف هذه الفلسفات في مضامينها الفكرية والأخلاقية والغائية، إلا أنها تتفق على مشترك فكري وسياسي واحد، ألا وهو مشترك العدالة الاجتماعية في التقاضي بين المواطنين لفك الخصومات والمنازعات والمشاحنات بالعدل والقسطاس، وفي تقسيم المسئوليات والمناصب والثروة على الجميع من غير تفريق بينهم، بسبب العرق أو اللون أو الجهة أو الأيديولوجيا أو الميول السياسية والاتجاهات الفكرية والعاطفية، أو بسبب المزاجية والفردانية في اتخاذ القرارات الحاسمة، أو درجة الشهادة والمسئولية والوظيفة، لأنَّ هذه الفوارق  في الرتب ودرجات الاستحقاق، هي ما يميِّز الطبيعة البشرية برمتها، والعدالة الاجتماعية كمفهوم ديني وفلسفي وقانوني، لا تتحقق في المجتمعات الإنسانية، إلا إذا وجدت الفوارق بين الناس في الصفات العقلية والنفسية والتفاوت الطبقي الناتج عما يملكه الناس من مواهب وقدرات وثروات ووجاهة اجتماعية، ولو كان الناس متساوين في حظوظ الذكاء والمواهب والتأهيل العلمي والوظائف والوجاهة، ما كلّف المصلحون أنفسهم عناء الدعوة إلى تحقيق العدالة بين الناس، فالتمايز البشري عن بعضهم البعض  في الصور الخارجية، وطرق التفكير والمواهب ودرجة التأهيل، ووظائف العمل والصناعات والحرف وأنماط التجارة، هو ما تترتب عليه المنازعات والخصومات وتضارب المصالح.

والحياة البشرية تقوم على الحركة والنشاط، والتنافس على المال والحُكم ومتاع الدنيا، والتنافس على المصالح يؤدي إلى الخصومات والمنازعات والمشاحنات، والأقوياء بالمال أو المسئولية أو الجاه والوجاهة أو التمكين في الأرض، هم من يعتدون على مصالح الضعفاء والمضنون عليهم والذين قست عليهم الحياة، فيستغلون بؤسهم وضعفهم، ويغتصبون حقوقهم وأموالهم وأملاكهم، والعدالة عند التقاضي هي المؤسسة الوحيدة  التي تضمن لهم استرجاع حقوقهم المعتدى علها، من أجل ذلك كانت العدالة هي المركز الأساس الذي تُبنى عليه الدولة الفاضلة، فالدولة العادلة تعتبر دولة مقدَّسة وقد اكتنفها الطهر من كل جهة، لأنها جعلت القضاء يمارس وظائفه بكل حرية من غير أن تبيح للأقوياء التدخل لتعطيل العدالة عند التقاضي بين المتخاصمين، وبهذا العمل المقدس تكون الدولة قد التزمت بقواعد الحكم الراشد.

والحكم لا يكون راشدا إلا إذا كان ملتزما  بنشر الخير والفضيلة بين الناس، ونشر العدل بين الناس هو أسمى درجات الخير والفضيلة، وتعطيل العدالة بالأوامر العليا هو أسوأ درجات الرذيلة، لأنه يعطل قواعد العدل ويؤدي إلى انتشار الرذيلة بين الناس، وحينها تشيع الفاحشة والسطو على الممتلكات العامة والخاصة، وتُهدر الحقوق وتسود الفوضى في أجهزة الدولة، وتصبح الحقوق المغتصَبة غير مقدور عليها إلا بدفع الرشوة واتخاذ الوسائط من أهل الوجاهة والنفوذ، وكل ذلك يؤدِّي إلى تفكك الدولة فتصبح ضعيفة مهيضة لا تقدر على فعل شيء، وحينها  تصبح ضعيفة وقد فقدت هيبتها ووقارها، ويصير الناس لا يخافون من ارتكاب الجرائم والمناكر والمظالم، ولاسيما الأقوياء منهم، لأنهم أمِنوا العقوبة وعرفوا أنه بوسعهم أن يشتروا الأمان والعفو والتخلص من العقوبة، بالرشوة والوسائط، أو بتخفيف العقوبة إن كان الجرم جسيما.

وحينما ينتشر العدل في أجهزة الدولة، يتحقق  الأمن والهدوء والسكينة والاستقرار، وتقوى علاقة الودّ بين المسئولين والمحكومين وبين أفراد المجموعة السكانية في الوطن الواحد، وبتحقيق العدالة بين الناس ترتفع مكانة الدولة وتتجذر هيبتها في النفوس، ويصبح لها صيتٌ كبير في الداخل والخارج.

ولكن ما هي الشرائط التي يجب أن تتوفر في الدولة الفاضلة؟ هنا تأتي الإشكالية الجدلية  لتطرح نفسها في الوعي السياسي الأبدي، الذي يسود  الأوساط السياسية المتنافسة على الحكم، وهي تمثل عقدة متأزمة لا فكاك لها في خضم الصراع المحتدم، بين العصب والمتنفذين المتغولين والاحتكاريين الاستغلاليين، فالعصب والاحتكاريون يمتلكون مهارة فن الكذب واللعب بالألفاظ والكلمات والمعاني، لتسويق بضاعتهم السياسية المزجاة، وهم في جوهر الحقيقة لا يملكون مشروعا ثقافيا أو اقتصاديا واضح المعالم، يحققون به قفزة نوعية في التنمية الشاملة، وهم لا يحتكمون إلى معايير الحق والعدل التي تبنى عليه الدولة الفاضلة، لأن هذه  المعايير تتعارض مع مصالحهم ومصالح أوليائهم ممن يدعمونهم ويقفون إلى جانبهم في المواعيد والاستحقاقات، وهم حين يسعون إلى الحكم فغايتهم هي نيل الوجاهة والثراء والامتيازات الكبيرة، وحين يمتدُّ بهم الزمن في الحكم ويسمنون من فضول أموال الدولة، التي تتيحها لهم مناصبهم ويشتدُّ عودهم ويتمكنون في الحكم، تبرز لديهم غرائز الشر والعدوان على أملاك الدولة، مثلما وقع مع من تعرفونهم.

كانوا يتظاهرون بالفضيلة والقدسية في خُطبهم، وحب الوطن والشعب والشهداء ووجوب المحافظة على أملاك الدولة، ولكنهم في الخفاء كانوا أشرارا متستِّرين وقد أباحوا ممتلكات الدولة طوال مدة حكمهم، فكان أن عاثوا في الأرض فسادا وعطلوا العدالة والتنمية، فلا تقضي في الجرائم الكبرى التي تمسّ أولياءهم إلا بالإيعاز والأوامر، فألحقوا أضرارا جسيما بسمعة الدولة ومؤسساتها وأملاكها وعدالتها.

حينما ينتشر العدل في أجهزة الدولة، يتحقق  الأمن والهدوء والسكينة والاستقرار، وتقوى علاقة الودّ بين المسئولين والمحكومين وبين أفراد المجموعة السكانية في الوطن الواحد، وبتحقيق العدالة بين الناس ترتفع مكانة الدولة وتتجذر هيبتها في النفوس، ويصبح لها صيتٌ كبير في الداخل والخارج.

والاحتكاريون الاستغلاليون، لا يتيحون الفرصة للخيِّرين ممن يخافون الله ورقابة الضمير للوصول إلى الحكم، لأنهم مفطورون على قول الحق والعمل به، ولا غاية لهم من الحكم إلا خدمة الدولة والشعب ومصالحهما، ولو مُكِّنوا من الحكم لحوَّلوا الدولة إلى كيان مقدَّس تحكمه الفضيلة والقُدسية، مثلما كان عليه الأمر في دولة الخلافة الراشدة، فلما انتقل الحكم إلى العصب المتنافسة في الدولة الأموية والعباسية وغيرهما من الممالك، انتشر الفساد والاستبداد والظلم في الأرض، وشاعت المناكر والرذيلة  بين الناس، واعتدوا على حرمة العلماء ودعاة الإصلاح الذين قالوا كلمة حق حين سكت الناس، وهؤلاء الخلفاء فعلوا ذلك لأنهم أخذوا حقا ليس لهم فيه نصيب.

ومن شرائط الدولة العادلة أن يقودها رجالٌ صالحون مصلحون، يلتزمون بقول الحق وتطبيق القانون نصا ورحا، من غير حيف أو جور أو  مجاملة أو محاباة لقريب أو صديق أو شريف، قال النبي (ص) “وأيمُّ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها”.

والدولة العادلة هي التي تضمن الحقوق لجميع المواطنين، كالعمل والسكن والعلاج وتقسيم الثروة في الأجور والمعاشات، ولا تخصُّ طبقة معينة من العمال أو المحالين على المعاش دون طبقة أخرى، لأسباب غير موضوعية، تحكمها المزاجية والفردانية وليس قوانين الدولة، فالمواطنون تجمعهم الحقوق والعدالة، ويفرِّقهم مستوى التأهيل والوظيفة والمسئولية، والعدالة الاجتماعية تقتضي أن يأخذ كل واحد حسب تأهيله ومسئوليته ووظيفته واستحقاقه، فإذا أخلَّت الدولة بهذا النظام تكون قد خرجت عن قواعد الحكم الراشد الذي أساسه العدالة الاجتماعية، والتاريخ السياسي للحكام يسجّل لنا نُتفًا من سير رجال صالحين وصلوا إلى  الحكم، فعدلوا في رعاياهم، فقدَّسهم الناس وأكبروهم وأجلُّوهم وأحاطوهم بهالةٍ من التعظيم والتبجيل، ككسرى أنو شروان بدولة فارس، الذي اشتُهر بالعدل ومما يُحكى عنه أنه بعث في رحلة صيد رجلا من حاشيته ليأتيه بملح من قرية مجاورة لشواء الصيد، فلما أتاه الرجلُ بالملح سأله إن كان قد دفع ثمنه، فقال الرجل: يا مولاي، هذا قليلٌ من الملح لا يستحقّ دفع الثمن، فقال كسرى: أعلم ذلك، ولكن إذا أجاز الملك أخذ الملح بدون ثمن، أجاز حاشيتُه والمقربون منه أخذَ البيوت والممتلكات من الناس من غير دفع الثمن، وقصة الهرمزان الذي وجد عمر بن الخطاب نائما من غير حراسة مشهورة في تراثنا الفكري والسياسي، قال: “حكمتَ فعدلتَ فأمنت فنمت يا عمر”، وإن كان في هذه المقولة عللٌ في الإسناد أو تزيّدٌ في الرواية، إلا أن عدل عمر أشهر من أن يُستدل عليه بقول قائل مهما كان مركزه،  وعمر بن عبد العزيز الأموي الذي خالف بني أبيه وعمه، في إعادة الحقوق المغتصَبة إلى أهلها، من الممتلكات والضياع والعقارات مشهورة في سيرته العطرة، وزاد على ذلك أن ضبط خزينة الدولة وجعل عليها قيودا صارمة،  بعد أن كانت مباحة للأمراء والشعراء والخطباء وكبار القادة وأشراف الناس، ويقال إن عهده عمّه الرخاءُ فلم يجدوا من يعطونه الزكاة، وغير هؤلاء الحكام كثيرٌ في التاريخ السياسي للأمم لا يتسع المقام لذكرهم.

والفلسفة القرآنية  بهديها الراشد تركّز في محاورها الكبرى، على الالتزام  بقواعد العدل والقسطاس بين الناس بمؤمنيهم وذِمِّيِّيهم، من غير تمييز بينهم بسبب العقيدة أو العرق أو الاختلاف في الرأي، لقوله تعالى: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، (النساء: 58) قال الطبري في تفسير هذه الآية: “حُقّ على الإمام أن يحكم بما أنـزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحُقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا”.

والحاكم الصالح الذي ينشر العدل في أجهزة الدولة، وينشر الخير بين المواطنين ولا يميز بينهم في توزيع الثروة في الزيادات التي تقررها الدولة، ويقيم تنمية شاملة في البلاد ولا يجعل المتنفذين المتغولين يبيحون خزينة الدولة، فهذا الحاكم تجب محبّته وطاعته والالتفاف حوله وحول مشاريعه، وهو مشمول برضا الله وسيكون من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث النبوي الصحيح.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!