-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العربية أوَّلا.. والإنجليزية لاحقا

العربية أوَّلا.. والإنجليزية لاحقا

لقي قرار السلطات العمومية باعتماد الإنجليزية في التعليم الابتدائي ترحيبًا من المجتمع الجزائري بمختلف مكوّناته النخبوية والقطاعية، خاصة المنتمين منهم إلى التعليميْن العامّ والعالي، تقديرا لأهمية هذه اللغة الحيّة في عصر العولمة.

وإذا كنّا نقاسمهم الموقف مبدئيا، فإنّ الواقع يفرض تبديد الكثير من نقاط الظلّ، بل وتصحيح تصوُّرات خاطئة عن علاقة اللغات الأجنبية بالتعليم والإبداع وتقدّم الدول، لأنّ اللغة الأجنبية، أيًّا كانت، ليست مفتاح عبور نحو الحضارة، إنما هي أداة تواصل أو تحصيل علمي في أحسن الأحوال، وعندما تتحوّل إلى وعاء ثقافي لتشكيل الوجدان والفكر والسلوك تصبح أداة تغريب واستلاب.

الكثير من الفرحين بإدراج الإنجليزية يدفعهم رفضُ التبعيّة للفرنسية في الجزائر، من دون التفكير مليّا في أن المرحلة المعنية تخص التعليم الابتدائي، وهنا من حقنا إثارة التساؤل المعرفي المشروع: هل التبكير بتدريس اللغات الأجنبية أمرٌ محمود بيداغوجيا أم لا؟ وما هي تجارب الآخرين في هذا المجال؟

 المعلوم لدى المختصين اللغويين والتربويين أنّ التركيز على اللغة الأم هو الأولوية في السن المبكّرة للطفل، حتى يتمكن منها قراءةً وكتابةً وتعبيرًا، وكل إقحام للغةٍ ثانية غريبة عنها في الطور ذاته سيكون حتما على حسابها، فكيف يكون الحال وهو يعاني من ضعف في تكوينه اللغوي الأصلي؟

إذا كان الإجماعُ اليوم معقودا على الانحدار الخطير في المستوى اللغوي لأبنائنا، بل وطلبتنا الجامعيين، بغضِّ النظر عن الأسباب، حتى صرنا أمام واقع لغوي هجين وركيك يعجز فيه الجزائري عن الكلام بطلاقة إلا نادرًا، فإنّ النظر إلى قرار اعتماد الإنجليزية في التعليم الابتدائي ينبغي أن لا يكون مفصولا عن تشخيص الوضع اللغوي المدرسي والاجتماعي.

لقد دلّت بحوثٌ نفسية ولغوية على أن الطفل الذي يتعلم لغة غير لغته الأم دون العاشرة تضعف قدرته على الاستيعاب، ويتذبذب بين اللغتين حتى يتأخر في كلتيهما.

لذلك نجد أنّ تعليم اللغات الأجنبية في عموم دول الاتحاد الأوروبي مثلاً، باستثناء مالطا وفنلندا، يبدأ من نهاية التعليم الابتدائي أو بداية الثانوية، وبالنسبة للإنجليزية تحديدا يبدأ تدريسُها من الطور الإعدادي غالبا وأحيانا من الثانوية، بينما ينطلق تعليم اللغات الأجنبية في أستراليا من المرحلة الثانوية، والأمر نفسه بمعظم المدارس الأمريكية.

ثمّة سؤال جوهري علينا تحديد جوابه قبل الحسم في تفاصيل القرار المعلن، لأنها تُبني عليه، وهو: ما حاجتُنا في الجزائر من تعليم اللغات الأجنبيّة؟

إذا كان الهدف يندرج في الإطار الثقافي العامّ، بحيث نتيح لأبنائنا التحكُّم في لغة تجعلهم منفتحين على العالم، فلا مبرّر في هذه الحالة أن نجعلها عبءا على برامجهم الدراسية في سنّ مبكّرة، لأن تأثيرها سيكون حتما سلبيّا على تحصيلهم التعليمي، خاصة اللغوي منه.

أما إذا كان الخيارُ ضمن التحضير للتحصيل الجامعي في مجال الدراسات العليا المتخصصة، إذ أنّ التقدّم في البحث العلمي اليوم لم يعد متاحا من دون إتقان لغته الأولى عالميّا، فلا شكّ أنّ البدء في كسبها من الطور الابتدائي سيكون استعجالاً، في حين أنه قابلٌ للاستدراك في فترة لاحقة، خاصة مع تطوُّر التكنولوجيا والتعليم الرقمي.

أما إذا كان هناك من يعتقد أنّ إحراز النهضة مرهونٌ أساسا بلغةٍ أجنبية، فإنّ سلم التنمية الصادر سنويّا عن برنامج الأمم المتحدة الانمائي يدل على أن البلدان الأقل تنمية في العالم هي التي تستعمل لغةً أجنبية، لغةَ عمل أو لغة رسمية، بينما الأفضل على مؤشرات التنمية هي تلك التي تستعمل لغتها الأم، بل تندر فيها المدارس الأجنبية، على غرار النرويج وفنلندا والدانمارك.

بالمقابل تبقى البلدان الإفريقية والعربية مثلا متخلفة، رغم تبديل غالبيتها للُغتها باللسان الأجنبي، خاصة الفرنسي، وتدريسه في مراحل مبكرة والتعليم به، في وقت يتقدم الكيانُ الصهيوني واليابان والصين وكوريا الجنوبية وغيرهم كثير بلغاتهم الأمّ، باعتبارها الوحيدة القادرة على تفتيق الإبداع في أفرادها، ويُستثنى من ذلك الحالات الشاذّة من مخترعين وعلماء.

كما تجدر الإشارة إلى أنّ حلّ أزمة المنظومة التربوية لن يكون بتقرير لغة أجنبية ما، لأنّها قضية جزئية محدودة، قياسًا بحالة المدرسة الجزائرية التي لا تزال تبحث عن الإصلاح الشامل.

إنّ سرد هذه المعطيات ليس للاعتراض على إدراج الإنجليزية في الطور الابتدائي ولا لتقديم خدمة مجانية لبقاء الفرنسية المتهالكة، بل لنقول إنّ الوضع المعقّد يفرض التفكير العميق لتأمين نجاح الانتقال اللغوي في الجزائر، حتى لا نضيّع المزيد من الوقت في تجارب متعثّرة.

إنّ الخوف من الفوضى اللغوية قائم، في ظل وجود لغتين وطنيتين بالمدرسة ولغة أجنبية ستعضدها أخرى، لنصبح أمام تلقّي تلامذتنا أربعَ لغات دفعة واحدة في سن متقدمة جدّا.

لذا، فإنّ التخلص من الفرنسية، ولو بصفة تدريجية، أمرٌ لا مفرّ منه، وحتى دخول الإنجليزية ينبغي أن لا يتقرّر في السنوات الثلاث الأولى من التعليم على الأقلّ، ولا أن يكون على حساب اللغة الأمّ.

لا نظنّ أنّ تلك المؤشرات غابت عن مجلس الوزراء، والدليل ربطه التنفيذ بإنجاز دراسة عميقة من الخبراء والمختصِّين، وهو ما نرجو أن يكون فرصة فعلية لحوار مجتمعي، يسمح للشركاء والباحثين بإبداء آرائهم، لإسناد عمل الجهات المخولة ببلورة الآليات التطبيقية للقرار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!