الرأي
في الذكرى الـ54 لوفاة الإمام ابن باديس

العلم يرثي حاله في بلد جمعية العلماء

سلطان بركاني
  • 3228
  • 28

أربع وخمسون سنة تمرّ على رحيل رائد النّهضة العلميّة والإصلاحيّة في الجزائر، الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي أبينا ــ مع سبق الإصرار والترصّد ــ إلا أن نختصر حياته وجهاده في يوم واحد من السّنة، وبلغنا من تنكّرنا لفضله على هذا البلد أنّنا جعلنا من يوم وفاته يوما نتغنّى فيه بفضل العلم ومكانة العلماء، ونتذكّر شيخ المصلحين الجزائريين ذكرًى عابرة، متناسين أنّ العلم لا يُثلم بأعظم من قبض الدّعاة المصلحين؛ من طينة هذا الرّجل الذي نذر طفولته وأفنى شبابه، وأرهق كهولته في سبيل طلب العلم وبثّه، وكانت وفاته المبكّرة بسبب الإجهاد الكبير الذي لحق جسمه النّحيل في دروس العلم التي لا تكاد تنقطع باللّيل والنّهار، أملا في صناعة جيل يحمل مشعله، ويترسّم منهجه ويقتفي أثره من بعده.

ابن باديس والفهم الواسع للعلم

لقد سبق ابن باديس أهلَ عصره من علماء الدّين، ونظر إلى العلم على أنّه كلّ ما يُصلح دينَ النّاس ودنياهم، أولاهم وأخراهم، فقال ناصحا طالب العلم المسلم: “احذر كلّ مُتَعَيْلِم يُزَهِّدك في علم من العلوم، فإنّ العلوم كلّها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية، ودعا إليها القرآن الكريم بالآيات الصّريحة”، وسعى إلى بناء بلد يسوسه العلماء والحكماء، وتُسمع فيه لأهل العلم كلمتهم، ويعرف لهم فضلهم، وتحفظ مكانتهم وتصان كرامتهم، ومات يوم مات وهو يتمنّى لهذا البلد غدا مشرقا في ظلّ استقلال يكون بداية لقطيعة واضحة مع سياسة “إشاعة الجهل وتمكين الجهلة” التي فرضها الاستعمار.

زعامات ما بعد الاستقلال تتنكّب منهج ابن باديس

بعد 22 سنة من وفاة ابن باديس، نال البلد استقلاله، وكانت الفرصة مواتية والظّروف مهيّأة ليتحقّق حلم الإمام المصلح، وتبدأ مسيرة الإصلاح والبناء والتّشييد، ولكنّ مسيرة أخرى انطلقت، هي مسيرة تصفية الحسابات والتقاتل على المغانم والمناصب، ووسّدت الأمور ــ باسم الشّرعية الثّورية والتاريخيّة ــ إلى زعامات لا علاقة لها بالعلم، ولا حظّ لها من السّياسة إلا إتقان فنون المراوغة والكيد للخصوم، ولا تعرف من الوطنيّة إلا علما يرفرف ونشيدا يعزف وموائد في المناسبات بألوان الطّعام تزخرف.

لم يعد لابن باديس من حقّ بعد الاستقلال إلا سورة من القرآن تقرأ على روحه، وباقة من الزّهور توضع على قبره في ذكرى وفاته، وكأنّه يراد للبلد أن ينسى ويؤبّن منهجا ارتضاه، وعلما ورّثه، لحساب مناهج شرقية وغربية فرضت ولا تزال تفرض على هذا البلد، ضيّعت عقودا من تاريخه في سياسات ترقيعية تنكّرت للعلم وأقصت العلماء، وقد بدأت بوادر هذه الحيدة منذ أوّل لحظة بعد الاستقلال، ما جعل الإمام الإبراهيميّ يخرج عن صمته في الذّكرى الـ24 لوفاة رفيق دربه، الموافقة لـ16 أفريل 1964م، وينتقد النّهج الذي تجرجر إليه الجزائر، فيقول: ” إنّ وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبّط في أزمة روحية لا نظير لها ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحلّ, ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسّلام والرّفاهية وأنّ الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والإسلامية لا من مذاهب أجنبيّة. لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا إلاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم, وقد آن أن يرجع إلى كلمة الأخوّة التي ابتذلت ــ معناها الحق ــ وأن نعود إلى الشّورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم، وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية، مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان”.

العلم ينعي ابن باديس ويرثي واقعه التّعيس

لقد تنكّر الذين تولّوا زمام الأمور في هذا البلد للعلم والعلماء، وشغلوا الشّباب بكرة القدم والأغاني والألحان، ورفعوا من شأن أهل الرياضة والفنّ، وأكرموهم وأغدقوا عليهم من جزيل الأعطيات، ووضعوا من شأن أهل الثقافة والعلم، وأهانوهم وبخلوا عليهم بالفتات، وضيّقوا على التّعليم الدينيّ، وجرّدوا المنظومة التّربويّة من هويتها، وحوّلوها إلى حقل للتجارب وساحة للصراع، وباءت إصلاحاتهم المسيّسة بالفشل، لتتأخّر المدرسة الجزائرية إلى المرتبة الـ100 عالميا في جودة النّظام التّعليميّ وفقا للتقرير الصّادر عن المنتدى الاقتصاديّ العالميّ لعام 2013 -2014م.

أمّا الجامعات الجزائرية، فإنّها ــ على كثرتها ــ لا زالت تنافس على المراتب الوسطى والمتأخّرة، فقد صنّفت أفضل جامعة جزائرية (جامعة منتوري بقسنطينة) في المرتبة 2168 عالميا العام الماضي.

هذا الواقع الذي تعرفه المدرسة والجامعة الجزائريّة، أنتج جيلا من المتعلّمين من دون هوية ولا هدف، لا همّ للواحد منهم إلا شهادة لا يضرّه أن تكون شهادة زور لعلم لم يحصّل منه إلا قشوره، وصارت الجزائر من أقلّ بلدان العالم استثمارا في العقول، ومن أكثرها تهميشا وطردا للإطارات، ما جعلها تحتلّ المرتبة الأخيرة عالميا في جذب المواهب، وفقاً لمؤشر تنافسية المواهب العالمي (جي تي سي آي)، بين 103 دولة تمّ إخضاعها للتّحليل، وجاءت في ذيل ترتيب الدول العربية والأفريقية في مجال التّنمية البشرية وفقا لآخر تقرير صدر عن منتدى الاقتصاد العالمي وهيئة “ميرسير” للاستشارات الاستراتيجية الأمريكية، كما لا تزال تعدّ من أكثر الدّول تخلّفا في مجال البحث العلمي المتعلّق بكثير من التخصّصات، لعلّ من أبرزها العلوم الطبية التي لم تتخطّ نسبة التقدّم فيها عتبة الصّفر.

أمّا في مجال الاتّصالات التي تعتبر من أهمّ معايير التقدّم العلميّ، فقد صنّفت الجزائر ضمن الـ10 دول الأكثر تخلّفا في هذا المجال، بعد أن سبقتها إلى اعتماد الجيل الثالث (3G) 150دولة، بينها نيجيريا والصّومال، كما احتلّت المرتبة الأخيرة بين 176 دولة، في سرعة تدفّق الأنترنت وفق تصنيف مؤسسة “نت أنديكس” الأمريكية، وهو ما جعل نسبة استخدام الجزائريين للأنترنت لا تتعدّى ربع نسبة استخدام جيرانهم المغاربة لهذه التقنية. فأيّ معنى للاحتفال بيوم العلم في ظلّ هذا الواقع الذي حوّل البلد إلى سوق تتنافس الدّول للسّيطرة عليها، وإغراقها بشتى أنواع السّلع التي استغنت كثير من دول العالم الثالث عن استيرادها؟.

مقالات ذات صلة