-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العلوم الاجتماعية.. معرفة عالمية أم علمانية متسترة؟

محمد ذياب
  • 975
  • 1
العلوم الاجتماعية.. معرفة عالمية أم علمانية متسترة؟

“رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هى شجرة المعرفة الحية المورقة” عبد الوهاب المسيري.

نقصد بالعلوم الاجتماعية تلك العلوم الأكاديمية التي تدرَّس في الجامعات كعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة والتاريخ. ترجع التسمية للتقليد الأنجلوسكسوني الذي يفرِّق بين العلوم الاجتماعية والإنسانيات، إذ يطلق التسمية الأخيرة على الآداب والفلسفات والدراسات المعيارية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تغلَّب مصطلح “العلوم السلوكية” للتعبير عن هذه المباحث نتيجة التوسُّع السلوكي في علم النفس ثم هيمنته على بقية علوم الإنسان والمجتمع هناك، أما مصطلح “علوم الروح” فيرجع إلى التقاليد الألمانية المثالية التي فرقت بين العلوم الطبيعية وعلوم الروح التي يقصد بها علوم الإنسان. هذا الاختلاف في التسمية ربما سيجرُّنا إلى استعجال النتيجة التي سنصل إليها في هذا المقال وهي أن العلوم الاجتماعية ليست علوما بقدر ما هي “فلسفات متسترة بلغة العلم”.

قبل أن نبدأ في تحليل هذه الفرضية لا بأس أن نعرج على موقف بعض الدول الكبرى غير الغربية من العلوم الاجتماعية الغربية، باعتبارها تخصصات أكاديمية، فبتاريخ 08 جوان 2015 صدرت رسالة من وزير التعليم الياباني هاكوبون شيمومورا إلى جميع الجامعات الوطنية اليابانية البالغ عددها 86 جامعة، تدعو إلى اتخاذ خطوات فعالة لإلغاء كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية أو تحويلها “لخدمة المجالات التي تلبي احتياجات المجتمع الياباني بشكل أفضل” كما جاء في نص الرسالة.

أكدت 26 جامعة يابانية على الفور أنها إما ستغلق أو تقلص كلياتها ذات الصلة بناءً على طلب الحكومة، وفقًا لمسح لرؤساء الجامعات أجرته صحيفة “يوميوري شيمبون”. بالطبع لم يعجب هذا القرار حراس المعبد الاستعماري الأكاديمي الغربي في اليابان، إذ تمردت جامعتا طوكيو وكيوتو على قرار الحكومة، وهاتان الجامعتان اليابانيتان هما الوحيدتان ضمن الجامعات المائة الأعلى تصنيفا حسب “المعايير الأمريكية”، وإذا ربطنا بين التصنيف الغربي وقرار التمرد على القرارات الحكومية في دولة كاليابان، نفهم جيدا أي دور استعماري تلعبه وكالات التصنيف الأكاديمي التي تسمي نفسها “عالمية” والأصح أن تسمى “وكالات الدعاية الأكاديمية الغربية”، وأي دور تلعبه تلك العلوم الإنسانية غربية الروح في وأد البدائل المعرفية للأمم وفي حروب العقل وفي خلق الهزيمة النفسية المستمرة منذ قرون.

ولا يختلف الأمر مع الصين التي تعد العلوم الاجتماعية حديثة السن جدًّا فيها مقارنة بالدول العربية التي اعتنقت هذه العلوم باكرا منذ بداية الغزو الاستعماري، وهناك فتراتٌ تم فيها حظر كل العلوم الاجتماعية الغربية في الصين مثلما كان الوضع منذ سنة 1952 حتى أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، إذ تم التسامح مع تدريس هذه العلوم لاحقا في الصين باعتبارها جزءا من إكراهات الصفقة التي أبرمها الحزب الشيوعي الصيني مع الرئيس الأمريكي نيكسون والتي تقتضي تحديث الصين وإلحاقه بالعولمة في مقابل ربط الاقتصاد الصيني بالاقتصاد الفقاعي الأمريكي بعد تعويم الدولار، ليصبح مليار إنسان وأكثر في الصين عمّالا في ورشة كبرى لترقيع الكوارث المالية التي يُحدثها التمويل الربوي الأمريكي، أي أن يصبح المواطن الصيني غطاء للدولار بدل الذهب جنبا إلى جنب مع البترول العربي! لكن الأمر يتغير اليوم بشكل واضح بعد إعلان الصين تمردها على الغرب، إذ طفا إلى السطح أيضا ذلك التمرد الكامن الخفي للعلوم الاجتماعية الصينية، وهي الأساليب التي تهدف إلى إضفاء الطابع الصيني على العلوم الاجتماعية أو توطينها، والسعي إلى بروز مدرسة صينية مميزة للعلوم الاجتماعية. وقد أفردت سلسلة كامبريدج لتاريخ العلوم في مجلدها السابع المخصص للعلوم الاجتماعية فصولا متعددة للانشقاقات عن العلوم الاجتماعية الغربية ومحاولات إضفاء الخصوصية المعرفية في الدول الناشئة خصوصا في اليابان والصين والهند.

وتحدّث تقرير كامبريدج عن “الأعراف الكونفوشيوسية” في الصين التي تعمل على حماية القواعد وإضفاء القوة على الكتابات الاجتماعية وتفسير العلاقات الإنسانية، وقد أكد التقرير قوة هذه التقاليد إذ يقول: “يبدو أن الفكر الاجتماعي الصيني القديم بشكل عامّ، والكونفوشيوسية على وجه الخصوص، كان في الغالب “اجتماعيًّا”.يتضح الطلب على “صينية العلوم الاجتماعية” من خلال الجهود المستمرة من قبل علماء الاجتماع الصينيين بدعم من الحكومة، ولهذا لا يمكن اختزالُ تحديث المجتمع الصيني خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين في مجرد عملية تغريب متزايدة، كما يقول تقرير كامبريدج.

وغير بعيد عن الصين تبادرنا حركة “توطين العلوم الاجتماعية” وهي حركة لأكاديميين تايوانيين انبثقت عن سلفها “حركة تصيين Sinicization– العلوم الاجتماعية”، لتنفصل عن العلوم الاجتماعية الغربية والصينية معا نحو علوم اجتماعية أهلية تايوانية محلية.

والواقع أن الغرب أيضا قد ضجر من علومه الاجتماعية بعد أن تبين له بأنها علومٌ زائفة مُرهِقة للعقل مضلِّلة للفكر ولا تساهم قيد أنملة في حل مشكلات الواقع، ففي سنة 2010 خرجت من جامعات باريس مظاهرة حاشدة لأساتذة علم الاقتصاد مع طلبتهم، هذه المظاهرة ليست ضد الحكومة أو بسبب غلاء المعيشة بل هي مظاهرة ضد علم الاقتصاد! وقد تطورت هذه المظاهرة لتصبح حركة سمّت نفسها “حركة طلبة من أجل إصلاح تعليم علم الاقتصاد”، وقد عبرت هذه الحركة المحيط الأطلسي نحو الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح اسمها “حركة علم اقتصاد ما بعد التوحد” وتدعو هذه الحركة إلى إصلاح جذري لعلم الاقتصاد مع تغيير ذهنية الاقتصاديين الذين جعلوا هذا العلم مصابا بالتوحُّد تائها في الشكلانية الرياضية ومنفصلا تماماعن الواقع.

ولو أردنا أن نتتبَّع بقية الأزمات المعرفية للعلوم الاجتماعية الغربية فإنَّ الأمر يحتاج إلى مجلدات وليس إلى مقال في جريدة، لكن ما يهمُّنا الآن هو أن نعي جيدا أن العلوم الاجتماعية التي ظهرت مع ميلاد الحداثة الغربية تعيش الآن مرحلة التفسخ والاضمحلال، وهي تغرب مع غروب هذه الحداثة نفسها، وهذا يعني أن هذه العلوم ليست علوما موضوعية عابرة للزمان والمكان كما صورته لنا الأكاديميا المستورَدة في جامعاتنا بل هي علومٌ “تحت الطلب” تخدم تحيزات الجهة التي ترعاها.

ولا يختلف الأمر مع الدراسات الأدبية واللغوية والدراسات الفلسفية التي اتخذت عندنا وضعية المرآة التي انكسرت ووضعت مكانها صورة وهي صورة معظم اللغط والضجيج الفكري الذي يعاني منه الغرب بوصفه غربا، ولا علاقة له تماما بنا كأمة لم تنل من الغرب إلا الهيمنة والاستنزاف والمسخ والاستعمار؛ فالنظريات النقدية التي تدرَّس في كليات الأدب العربي عندنا على سبيل المثال، لا علاقة لها بالأدب العربي إلا أنها تدرَّس باللغة العربية، وهي نظرياتٌ ومناهج مستورَدة بالكامل من الآداب الغربية، وإذا علمنا أن الآداب الغربية الكلاسيكية تختفي بدورها لتحل محلها آداب ما بعد الحداثة، وهي آداب –إن صحّ وصفها بأنها آدابا- تستلهم التراث الغنوصي الباطني والعقائد الحلولية للديانات الوثنية متسلحة باللغة التفكيكية المراوغة التي طورها مفكِّرو ما بعد الحداثة لخلق فيض من المصطلحات والمفاهيم السائلة التي لا تخاطب أي قيمة في الإنسان ما عدا محاربة المقدَّس، وهذا من أجل شرعنة القيم الترخيصية الإباحية التي تبشِّر بها أكاديميا ما بعد الحداثة، وتستخدم في سبيل ذلك مناهج تدعي أنها “نقدية” وهي في الواقع مناهج إلحادية قديمة، لازالت الآثار الغنوصية الباطنية واضحة في تسمياتها لمن هو مطلع على تاريخ المذاهب الباطنية والديانات الحلولية وتراث الزنادقة والنزعات الغنوصية، إذ بالإمكان الكشف عن علاقة الهرمنيوطيقا بالهرمسية الباطنية والسيمنطيقا بعلوم السيمياء وأسرار الحروف وعلوم القبالاه الغنوصية وهكذا دواليك.

إن العالم اليوم يراجع نفسه بعد أن وصل إلى حالة متقدمة من الإفلاس الفكري والأخلاقي بسبب العلمنة القسرية التي فرضها الاستعمار الغربي على العالم، وقد أنتجت هذه العلمنة ثمارها المرة التي سممت الإنسان روحا وجسدا ودمرت بيئته ومحيطه المادي والمعنوي، وقد آن الأوان بل الأصح أنه لم يبق من الوقت إلا القليل، لنقوم برمي كل المعارف المزيفة والعلوم التي لا تنفع، ونُحلّ مكانها معارف وعلوما تتناغم مع تراثنا الروحي والفكري الذي يعكس تحيزاتنا نحو ذواتنا لا تحيزات الغرب أو أي أمة أخرى تجاهنا، لأنه لا يمكن للعبد أن يتحرر إذا كان متبنيا لتحيزات سيده نحوه.

ونختم مقالنا بحديث رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    مقال ممتاز ، نعم ما جاءنا ليس علما بل إيديولوجية غربية تدعو للإلحاد والإباحية.