-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العنف يمتدّ في مدارسنا

العنف يمتدّ في مدارسنا

لقد ظلت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله التي مطلعها “قم للمعلم وفّه التبجيلا” إلى عهد قريب، مرجعا في أدب المعلم والمتعلم على سواء، يحفظها الناس ويتواصون بها كابرا عن كابر، ويسهر الجميع على تطبيقها بحذافيرها لأنها من الآداب التي استقرت في العرف العربي والإسلامي منذ عهد بعيد.

يقول أحمد شوقي:

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي     يبني وينشئ أنفسا وعقولا.

ليس هناك أشرف من المعلم، وليس هناك مهنة في الورى أشرف من مهنة التعليم، فإذا كان اهتمام رجال الأعمال منصبًّا على تضخيم رقم الأعمال بالفوز بأكبر حصة من الصفقات، فإن اهتمام المعلم منصبٌّ على بناء النفس وبناء العقل، ويعلم الله كم في هذا البناء من مشقة وكم فيه في المقابل من خير للأمة، فرُبَّ محنةٍ في طيِّها منحة.

ويقول أحمد شوقي:

سبحانك اللهم خير معلم      علَّمت بالقلم القرون الأولى.

إن الأمم لم تبن سؤددها ولم تؤنس وحشتها ولم تؤسس حضارتها إلا بالقلم، فالقلم هو الذي مكّنها من غزو الفضاء ومعرفة أسرار الذرة والمجرة، وصدق الله إذ يقول: “ن والقلم ما يسطرون” (القلم 1). إن القلم هو الذي رفع حجاب الجهل عن الأمم ونقلها من مجتمع الغاب إلى مجتمع الآداب وأنقذها من براثن الجهل ورفعها إلى مقامات العلم.

كل هذه الأساليب العقابية أساليب غير تربوية، فالفرق بين المنظومات التربوية القديمة والحديثة هي أننا انتقلنا من عنف المعلم إلى عنف المتعلم وكلاهما مخالف لقواعد التربية، وقد آن الأوان أن نصحح هذا المسار بما يحفظ كرامة المعلم وكرامة المتعلم في آن واحد.

هذه الصورة الجميلة التي يرسمها أحمد شوقي رحمه الله عن مجتمع تربوي راق، أشرِب أبناؤُه حسن الأخلاق، تقابلها للأسف صورة مستهجنة، صورة مجتمع متفلت، طلق أبناؤه القيم والآداب، وجعلوا من مخالفة الفطرة حضارة ومن كسر الحشمة شطارة ومن الخروج على العرف مهارة، مجتمع متفلت، اشتغل فيه الآباء بأنفسهم ورموا بفلذات أكبادهم في غياهب المجهول، وهذا لعمري هو اليتم الحقيقي الذي تحدث عنه أحمد شوقي رحمه الله بقوله:

إن اليتيم هو الذي تلقى له     أما تخلت عنه أو أبا مشغولا.

بعيدا عن لامية أحمد شوقي رحمه الله التي ينتقد فيها وضع المعلم في مصر في ذلك الزمان، فإن الأولى أن نلتفت إلى واقعنا الجزائري الذي تجاوز فيه العنفُ في مدارسنا مرحلة الخطر وانتقل إلى مرحلة أخطر. إن العنف يمتد في مدارسنا بسرعة البرق ولا سبيل للخروج منه إلا بتصحيح المسار من خلال تنفيذ خمسة إجراءات عاجلة، أولها إعادة النظر في برامج التكوين والتربية وتعزيز مكانة التربية الإسلامية والمدنية، وثانيها تعزيز دور المربين والمشرفين التربويين داخل المؤسسات التربوية، وثالثها ربط المؤسسات التربوية بمؤسسات الرعاية الاجتماعية والنفسية، ورابعها إشراك المساجد والجمعيات الدينية والثقافية في العملية التربوية، وخامسها تنظيم دورات إعلامية للتلاميذ للتحذير من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي.

إن قصص العنف التاريخي الذي حُشيت به بعضُ كتبنا المدرسية –مع احتفاظنا لواضعيها بقرينة البراءة- والتي صُنِّفت على أنها وسيلة من وسائل إحياء التراث العالمي وتفعيل الحوار بين الحضارات، ليست في الحقيقة إلا وسيلة لهدم المبادئ والقيم التي تحصّنت بها مدارسنا ضد حملات الغزو الفكري والثقافي. إن كثيرا من البرامج التي تعرضها بعض القنوات الفضائية وقنوات اليوتيوب ومقاطع التيك توك تحرض جلها على العنف ولو بطريقة غير مباشرة، ومن حصادها النّكِد أن تجد من أبنائنا التلاميذ من يقلد فوندام ودراكولا أو بطلا من أبطال أفلام هيتشكوك ثم ينتقل من التقليد إلى التجسيد فيقع في المحظور. قد لا يرى غيري ما أرى وقد يرون أنّ ما أسميه عنفا هو في تقديرهم شكلٌ من أشكال بناء شخصية التلميذ، وأنا لا أعترض على ذلك بشرط أن تكون هناك مرافقة دائمة من الأبوين أو المربين أو المسؤولين المباشرين، فإن التلميذ في مرحلة المراهقة وهي مرحلة عمرية حرجة قد لا يُحسن التعامل مع ما يرى بصورة إيجابية وقد يتحول -لا قدر الله- إلى مشروع مجرم، يستهويه التمرُّد على قوانين المجتمع وترويع الآخرين.

إن الأخبار غير السارة التي تطالعنا بها نشرات الأخبار بين الفينة والأخرى من وقوع معلم أو معلمة ضحية اعتداء غادر من تلميذ لم يتقبل نصيحة أو لم ترُقه علامة –مع أنها كل ما يستحق- أو كان تحت تأثير صدمة نفسية أو اجتماعية، أمرٌ لا يسر أحدا، بل هي نذير شؤم بأننا مقبلون على مشكلة كبرى لا يتوقف خطرها عند المؤسسة التربوية بل يمتد إلى المجتمع برمته.

حينما ننتقد المنظومة التربوية الحالية فهذا لا يعني أننا نبرئ المنظومات التربوية التي سبقتها، فإذا كان معلم اليوم هو المعتدى عليه، فإن متعلم الأمس من جيلنا وما قبله كان هو المعتدى عليه، فقد كان الواحد منا يعاقَب بسبب إهمال واجب بوضع يديه على ماسورة المدفأة حتى يشعر بحرارة حارقة تلهب يده وتمتد إلى جسده وتسبِّب له حالة من الهستيريا  التي يُسرّها في نفسه ولا يبديها لأبويه خوفا من عقوبة مضاعفة، وكان الواحد منا تُضرب أنامله بالمسطرة في عز الشتاء فيُسرّها في نفسه ولا يخبر أباه خوفا من عقوبة مضاعفة. كل هذه الأساليب العقابية أساليب غير تربوية، فالفرق بين المنظومات التربوية القديمة والحديثة هي أننا انتقلنا من عنف المعلم إلى عنف المتعلم وكلاهما مخالف لقواعد التربية، وقد آن الأوان أن نصحح هذا المسار بما يحفظ كرامة المعلم وكرامة المتعلم في آن واحد.

إن المدارس في أوروبا قد أصابها ما أصاب مدارسنا، فظاهرة العنف أصبحت ظاهرة جلية في المدارس الأوروبية ولو أنها ليست بالحد الذي وصلت إليه في مدارسنا. إن مشكلة العنف في المدارس مرتبطة بالأساس بظاهرة طغيان المبادئ المادية على المبادئ الأخلاقية، فأصبحت شخصية المتعلم تصنع خارج المدرسة ثم تسوق إليها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة.

هناك مخطط عاجل يجب القيام به من أجل إنقاذ الجيل وإنقاذ المدرسة وتتلخص معالمه الكبرى في الإجراءات الخمسة التي أشرت إليه آنفا والتي يمكن أن أضيف إليها:

– تكثيف النشاطات التربوية والرياضية والترفيهية التي من شأنها تحفيز الطاقة الإيجابية لدى التلاميذ والقضاء على الطاقة السلبية التي يتولد عنها العنف وحالات التمرد على العرف الأخلاقي والاجتماعي .

– تشديد إجراءات الانضباط داخل المؤسسات التربوية ومحيطها بالتعاون بين رجال الأمن الداخلي للمؤسسة التربوية ورجال الأمن الوطني، لأن استقرار المؤسسة التربوية شرط ضروري لاستقرار المجتمع.

– وقف السموم –المهلوسات والمخدرات- بشتى أنواعها التي تسبِّب انتفاخ الأنا وشعور المتمدرس بما يسمى الشجاعة الزائفة، ولا أتفق هنا مع مقولة بول نيزان “الشجاعة الزائفة تنتظر الفرص الكبيرة، والشجاعة الحقيقية تكمن في التغلب على الأعداء الصغار كل يوم”، إن كسب الأعداء، صغارا كانوا أم كبارا، ليس إنجازا ولا انتصارا، والشجاعة الحقيقية تكمن في التغلب على روح الكراهية والانتقام.

– تعزيز قنوات الحوار والتواصل بين المتمدرسين والمربين، ومن ثمرات ذلك إيجاد جو من التفاعل والتواصل الإيجابي بين الطرفين .

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • أفنى عمره في التعليم.

    إذا لم تتحرك الدولة وتقوم بحظر الوسائط الاجتماعية، فلن تكون هناك نتيجة لأي إصلاح تربوي أو مجتمعي.