-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“العِلْم المفتوح”: مشروع قيد الإنجاز!

“العِلْم المفتوح”: مشروع قيد الإنجاز!

يُعاني الباحثون في العالم الثالث من عراقيل متعددة الأشكال، منها ما هو مرتبط بقوانين وأعراف وتقاليد البلد الذي ينتمي إليه الباحث، ومنها ما هو خارج عن هذا النطاق. فالباحث العلمي، مهما كان زَمَكانُه، لا بد له من الاطلاع الآني عما ينشر في مجال اختصاصه من أبحاث كي يمضي قدما في أداء مهمته. غير أن هناك ناشرين علميين، لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، يحتكرون هذا النشاط الخاص بنشر المجلات الأكاديمية.

الاحتكار البشع

وهذا الاحتكار يجعل هؤلاء الناشرين يفرضون على المؤلفين والمكتبات الجامعية ومراكز البحث قيودا مادية لا تطاق! فهل من المعقول أن تستحوذ 4 دور نشر علمية في العالم على إصدار 50.2% من الإنتاج العلمي في مجال العلوم، وعلى 55.7% في مجال العلوم الإنسانية… برقم أعمال يتجاوز 6 ملايير يورو؟ وهذا في الوقت الذي تجد فيه الجمعيات العلمية غير الربحية والمجلات المفتوحة المموَّلة محليًا صعوبات مادية تهددها بالاندثار.

فكثير من تلك المجلات الأكاديمية التجارية تلزم المؤلف بدفع مقابل معتبر لنشر بحثه على صفحاتها مع حرمانه من جعله متاحًا لجمهور الباحثين بأي شكل من الأشكال. ثم إن هذه المجلات لا تدفع مكافأة للمحكّين الذين يقيّمون البحوث قبل نشرها. ومن أين للباحث في الدول الفقيرة أن يأتي بالمال الذي يغطي تكاليف نشر أبحاثه (إن وُجدت)؟! أما في العالم المتقدم، فغالبا ما تتولّى مخابر البحث تلك التكاليف مكان المنتسبين إليها.

ومع ذلك، يطلب هؤلاء الناشرون من المكتبات الجامعية التي تريد الاشتراك في هذه الإصدارات مبالغ خيالية. ومهما كانت إمكانيات هذه المكتبات المنتشرة عبر جامعات العالم فلا توجد مكتبة منها قادرة على الاشتراك في كل ما ينشر في مجال البحث العلمي. وفضلا عن ذلك، عندما يَلِج الباحث موقعَ المجلة ويرغب في الاطلاع على أحد الأبحاث يطلب منه هذا الموقع دفع مقابل يتجاوز في كثير من الأحيان 50 دولارا للمقال الواحد !

ويذهب جشع هذه المجلات إلى عرض خيار أمام المؤلف عندما يُقبل بحثه للنشر يتمثل في أن يدفع صاحب البحث مبلغا معتبرا للمجلة مقابل جعل بحثه مفتوحا لجميع القراء. هذا هو حال النشر العلمي الآن في المجلات الأكاديمية العالمية. وهذا ما أدى إلى تمرّد عديد الباحثين وفتح مواقع “قرصنة” توفّر مجانًا الكثير من البحوث المنشورة في تلك المجلات. والمعاناة التي تواجه باحثي العالم الثالث يشكو منها أيضا رجال العلم في البلدان المتقدمة، ويجتهد عدد منهم لإيجاد حل يجعل العلم مفتوحا للجميع، وفي متناول أي باحث في العالم بدون مقابل مادي.

تصوّر نفسك باحثا يريد الوصول إلى نتيجة علمية، وأن هذه الدراسة تتطلب الاطلاع على عدد كبير من البحوث المنشورة، وكل منها يطلب الولوج إليها 30 يورو. هل ستدفع كل ما يلزم للإنجاز دراستك بالوجه الأكمل أو ستكتفي بالاطلاع على بعض البحوث لنقص إمكانياتك المادية… وحتى إمكانيات المخبر الذي تنتسب إليه؟

البحث عن الحلول البديلة

يُذكر أن هذا الوضع عايشه مثلا عالم الأحياء الأمريكي جوناثان آيزن Jonathan Eisen وأدى ذلك إلى التزامه بـ”فتح العلم” للجميع بالعمل عام 2003 على إصدار مجلة PloS Biology ذائعة الصيت، والتي تعدّ مثالا ناجحا لمجلة مفتوحة يتم وضع منشوراتها على الإنترنت دون تأخر لتكون في متناول الجميع بالمجّان. وقد ظهرت عشرات الآلاف من المجلات المماثلة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.

لكن تمويل معظم هذه المجلات يتمّ من خلال ما يدفعه المؤلف عبر الهيئة التي ينتسب إليها. وتقدّر بعض الإحصائيات أن ثلثي المجلات الأكاديمية في العالم لازالت “مغلقة”، أي أن الولوج إلى مقالاتها يتطلب دفع مقابل أو اشتراكات. وقد انتقلت نسبة المجلات المفتوحة من 30.9% عام 2009 إلى 36.2% عام 2018.

ومن المبادرات الحثيثة للزيادة في نسبة عدد المجلات المفتوحة، المبادرة الأوروبية “مخطط S” الذي أطلق عام 2020 وجمع 27 مؤسسة تمويل بحثية (وكالات محلية ودولية، مؤسسات خاصة…). وعمل المشروع على وضع 10 مبادئ أساسية لبدء تغيير المسار في مجال النشر، وزيادة عدد المجلات المفتوحة. ويأمل أصحاب المبادرة إلى جعل معظم المجلات مفتوحة بحلول عام 2030.

كما أن مثل هذه المبادرات موجودة خارج أوروبا (الولايات المتحدة، الصين، أستراليا، كندا…). والسؤال اليوم لم يعد يطرح حول جدوى فتح المجلات الأكاديمية العلمية للجميع، فهذه الفكرة صارت راسخة في أذهان كل الباحثين وأصبحت مطلبا جماعيا في كل البلدان. بل السؤال الصعب هو كيف الوصول إلى ذلك بإيجاد الكيفية الاقتصادية المناسبة لتمويل تلك المجلات دون المساس بسمعتها العلمية؟

ومن بين التجارب التي عرفت بعض النجاح إبرام المؤسسة الجامعية اتفاقية خاصة مع الناشر كما فعلت جامعة كاليفورنيا مع الناشر العالمي المعروف “إلسفير” Elsevier : التزمت هذه الدار بنشر جميع أبحاث المنتسبين إلى الجامعة المذكورة وبجعلها مفتوحة مجانا للجميع مقابل دفع الجامعة مجمل رسوم النشر بسعر تم الاتفاق عليه. وإذا ما تم تعميم مثل هذه الاتفاق، فسيتحقق مبدأ “العلم المفتوح”.

لكن هذا التعميم يطرح مشكلا للمؤسسات التي ينشر فيها الباحثون بغزارة. ولذا من المقترحات الجارية تسقيف المبلغ السنوي الذي تدفعه الجامعة للناشر. وما يزيد الطين بلة هو كثرة الناشرين في العالم : هل تبرم المؤسسات الحكومية والمؤسسات الجامعية ومراكز البحث اتفاقية مع كل ناشر على حدة؟ ! ثم هل ستقبل كل دور النشر في العالم هذا النمط من التعامل إن كان النمط السائد اليوم يدرّ عليها أضعاف الأرباح؟ والأدهى من ذلك : كم عدد المؤسسات في العالم القادرة على الدخول في النمط الجديد؟ يعتقد المتتبعون أن ثلاثة أرباع الباحثين في العالم لن يتمكنوا على المدى القريب من الاستفادة من النمط الجديد نظرا لضعف ميزانيات البحث في مختلف المؤسسات.

ومن المشاكل التي تواجه مثل هذا المشروع الجديد أن جلّ الباحثين يرغبون في الترقية المهنية، ومن ثمّ فهم يميلون إلى نشر أعمالهم في أكثر المجلات شهرة، والتي يسيّر أغلبها الناشرون التجاريون في العالم. هذا ما يؤكد أن الطريق أمام فكرة “العلم المفتوح” لا زال طويلا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    هذه مشكلة الرأسمالية البشعة التي لا تخدم العلم البتة.لقد عملت البلدان الاشتراكية على مواجهة هذه الفئة وأقامت لمطاردتها عدة هيئات يرأسها مناضلون لخدمة ترقية المجتمعات.لكن بمجرد أفول نجم الاتحاد السوفياتي هيمن المال والابتزاز على الفكر وقبل من نهلوا من فضله الخنوع لأرباب المال وتخلوا عن خدمة البشر فيما يخص توسيع المجال لمن كان له ميل إلى خوض معركة البحث والابتكار.شيئان لا يجتمعان العلم والمال.فعلى من يريد خوض معركة الفكر واكتشاف المجهول أن يقنع بما عنده وينشر في أي مكان ما جادت به قدراته من سعي في أي ميدان ليظهر كفاءته وتفوقه العلمي.مجرد النشر في الوسط الجامعي يفسح المجال لأي إنسان.