-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الغرب يخادع عدم الانحياز

الغرب يخادع عدم الانحياز

يُطالب الغربُ اليوم بقية دول العالم بموقف واضح من روسيا. بات ما يُعرَف بـ”العالم الحر” غير مرتاح من موقف غالبية البشرية التي لم تؤيده في عقوباته وحربه ضد هذا البلد. يكفي أن الصين والهند غير منحازتين لأطروحاته، ليشعر بأنه لن يستطيع تحقيق النصر الذي يريد في أوكرانيا. بالمقابل تستطيع موسكو أن تفرض سياسة الأمر الواقع في الميدان وتُنهي عملية الاستفتاء بضم جمهوريتي “لوغانسك” و”دونتيسك” إلى الاتحاد الروسي، غير آبهة بإعلانات الرفض وعدم الاعتراف القادمة من العواصم الغربية. يُغيِّر هذا الواقع بشكل كبير القواعد التي ما فتئت العلاقات الدولية تقوم عليها، ويسحب المبادرة من المعسكر الرأسمالي لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة التقليدية سنة 1991.

تَمكَّن الغرب الليبرالي خلال الثلاثين السنة الماضية من رسم قواعد اللعبة الدولية بمفرده. احتلت مجموعة دوله المتحالفة الأراضي التي تريد، وسيطرت على المجالات التي تريد في كل العالم. تم تغيير الأنظمة السياسية التي لم تُساير السياسة الغربية بالقوة العسكرية، وتمت محاصرة أو معاقبة تلك التي لم يتم إخضاعُها بالكامل، بأساليب مختلفة (ثورات ديمقراطية، انقلابات، حروب أهلية، ربيع عربي… الخ). وكان من آثار ذلك فضلا عن سقوط الاتحاد السوفياتي (1991)، تقسيم يوغوسلافيا  (1991ـ 1992)غزو أفغانستان (2001) والعراق (2003) وتقسيم اليمن (2009) والسودان (2011)، وشنّ حربٍ مباشرة على ليبيا (2011)، وإشعال حرب أهلية في سورية (2011)، ومحاصرة إيران وفرض عقوبات غير مسبوقة عليها (1979، 1987، 2006 إلى الآن)، وتغذية الصراعات الإثنية والدينية والقبلية ونشر القواعد العسكرية في أكثر من بلد إفريقي وآسيوي تحت غطاء نشر الديمقراطية وقيم الحرية  وإعادة بناء الأمم…

أي أن الثلاثين سنة الماضية كانت سنوات الهيمنة الغربية الليبرالية على العالم بشكل غير مسبوق. وكان يُفترَض أن تستمر إلى حين الإخضاع التام للجميع، لولا الاصطدام بروسيا. في لحظة معيَّنة أحست هذه القوة النووية العظمى أن الغرب لن يتوقف عند حد إسقاط الاتحاد السوفياتي، بل سيُنهي أيضا الاتحاد الروسي، ويُفكِّكه بالتدريج عبر بوابة أوكرانيا… فكان الرد غير المُنتَظَر بالحرب، ثم بالاستفتاء على ضم أجزاء من أوكرانيا، ثم بالتعبئة العامة لمن أراد التصعيد.

وهنا تَذكَّر الغرب الليبرالي أو تلك المجموعة التي تُسمِّي نفسها “العالم الحر”، تذكروا بقية العالم “غير الحر” المُستعبَد ضمنيا، وأرادوه أن يقف إلى جانبهم ضد الروس… تذكروا عدم الانحياز، وباتوا يدعون إلى إحياء موقف هذه الكتلة، ناسين أنهم هم مَن حطَّموا السياسة المستقلة لمؤسسي الحركة وأقطابها الأوائل: “تيتو” اليوغسلافي، و”نهرو” الهندي، و”جمال عبد الناصر” المصري، ثم “كاوندا”، و”بومدين”، و”كاسترو”، حتى لا نذكر سوى هؤلاء… وناسين كل تلك الحروب العدائية التي تم شنها على شعوب مُستضعَفة، تارة بحجة “مكافحة الإرهاب” وأخرى بحجة “محاربة الدكتاتورية”، وكل تلك المآسي التي مازالت آثارها بارزة للعيان إلى اليوم في أكثر من مكان من هذا العالم الذي يريدونه منحازا لأطروحتهم.

لذا، فإن الوقت اليوم مناسبٌ لهذه المجموعة المستضعَفة لِتستخلص الدروس مما عرفت في العقود الثلاثة الماضية من مآس، وتُدرِك أنه إذا كان من خطر داهم على أمنها واستقرارها وتطوُّرها، فمصدره الغرب الليبرالي لا الشرق.. هذا الغرب الليبرالي هو الذي اِستَغَلَّ واستَعْبَدَ وأباد السكان الأصليين لقرون باسم الرسالة التَّمدينية للاستعمار، وهو الذي غزا واحتَلَ وقَتَل وحَرَّك الحروب الأهلية طيلة الثلاثين سنة الماضية باسم نشر الديمقراطية وفرض اقتصاد السوق.. أما الشرق فإنْ دَخَلَ في صراع مع الغرب لأجل مصالحه الحيوية، فليس بيننا وبينه خلفياتٌ استعمارية، ولا نسعى للتحرر من هيمنته.. عكس ذلك، نحن معه نسعى للتحرر من هيمنة الرجل الغربي، التي طال أمدها. لن ننخدع  للمرة الثالثة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!