الرأي

الغوطة وستالينغراد في المنظار الروسي

أي نصر يجنيه الكرملين، وهو يلقي بقنابل الموت على شعب أعزل، وقد أغلق كل منافذ العقل الإنساني، القادر على البحث في خيارات أخرى، لتحقيق هدف عسكري غير شرعي؟

لم يرتو بعد من دماء المئات، ولم تلفحه نيران الجثث المحترقة، في مدينة لم تر وافر الخير الدنيوي مثلما رأت وفرة عناقيد الموت المتساقطة على رؤوس الأحياء فيها، وهو يضع شروطا لوقف حمامات الدم، وإسكات الأنين الآدمي، تحت أنقاض البيوت المهدمة.

ما شهد تاريخ الحروب يوما، أخلاقيات قوة عظمى، تستبسل بعنفها المدمر على قرية صغيرة، لا يملك سكانها حتى ملاجئ للاحتماء، أو مؤنا يقتاتون منها أيام الحصار، ومستشفيات تداوي جرحى حرب غير متكافئة، ضحاياها أطفال ونساء وشيوخ ومدنيون عزل.

مشاهد دمار الغوطة هزت ضمائر البشر، ولم تر عبر قنوات الفضاء، التي تنوعت بخطابها، عدوا إرهابيا سقط، أو مواقع إرهابية دمرت بقذائف طائرات خصصت لمواجهة جيوش حلف شمال الأطلسي، عكس ما نقرأ في بيانات الكرملين، وتصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن تطهير الغوطة من الإرهاب هو الهدف، لحملة عسكرية لم تحدد في مديات مرمى صواريخها غير مدنيين عزل من أعمار مختلفة، وأحياء سكنية يؤويها البسطاء، وشواهد إرث حضاري وديني.

ويبدو أن المقاتل الروسي، وهو يصوب قذائف صواريخه المعلقة بأجنحة طائراته الحربية، يرى في الغوطة ستالينغراد المهيمنة على ذاكرته، باعتبارها أهم المعارك الدموية التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، بل الأكبر دموية في تاريخ الحروب على الإطلاق.

ليته قرأ جغرافية الغوطة، بوصفها أخصب بقاع العالم، لا بمنظار عسكري، بل بمنظار حضاري إنساني، ليدون في ذاكرته ما كتب عنها في كتاب عجائب البلدان:

“الغوطة هي الكورة التي قصبتها دمشق وهى كثيرة المياه نضرة الأشجار، متجاوبة الأطيار، مونقة الأزهار، ملتفة الأغصان خضرة الجنان، استدارتها ثمانية عشر ميلا كلها بساتين وقصور تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها ومياها خارجة من تلك الجبال وتمتد في الغوطة عدة أنهار وهى أنزه بقاع الأرض وأحسنها”.

ورأى فروع نهر بردى، تشق طريقها في جريان هادئ، حول مدينة دمشق وريفها، في سهل ممتد، زينته بساتين أشجار الفاكهة، وغابة من أشجار متنوعة الثمار، جعلت منه إحدى جنان الدنيا، وعجائبها في سحر الطبيعة، ورصد آثارها الشاخصة منذ العصور الحجرية، وتلالها الأثرية، وشواهدها الدينية، المدونة لتعاقب الأديان السماوية، وعصر الفتوحات على هدى خاتمة الرسالات السماوية.

شتان ما بين ستالينغراد التي دنسها النازيون بنزعة هتلرية، وبين الغوطة التي تحصن بها مقاتلون، يخوضون صراعا مسلحا مع نظام سياسي، كان من المفروض أن تحسمه مباحثات السلام  في سوتشي الروسية، التي قاطعها 40 فصيلا معارضا، رد عليها الرئيس فلاديمير بوتين، حينها مهددا، بقوله: “إذا رفع الإرهابيون رؤوسهم مرة أخرى، فإن روسيا ستشن غارات عليهم لم يروا مثلها من قبل” .

وغلق تهديد فلاديمير بوتين الذي دخل مرحلة التنفيذ، آخر أبواب المفاوضات بين الأطراف المتنازعة، مودعا آمال سوتشي في سلام يعترف بموجبه المعارضون بوجود عسكري روسي دائم في سوريا، بعيدا عن دور الأمم المتحدة.

مقالات ذات صلة