الرأي

الفرق‮ “‬الناجية‮” ‬في‮ ‬تصنيف الغرب للدول‮ “‬الفاشلة‮”‬

حبيب راشدين
  • 2298
  • 11

‭ ‬تنافست الصحافة العربية،‮ ‬وكبريات القنوات الموجهة لمعالجة الرأي‮ ‬العام العربي‮ ‬أوسط الأسبوع الماضي،‮ ‬بعناوين تشترك على الأقل في‮ ‬استنساخ عبارة‮ “‬الدولة الفاشلة‮” ‬وهي‮ ‬تنقل ـ دون نقاش أو تمحيص ـ مقتطفات مختارة من تقرير سنوي‮ ‬يصنف دول العالم بين أربع مجموعات على مقياس الاستقرار والفشل وفق النظرة الأمريكية‮: ‬دول مستقرة،‮ ‬ودول معتدلة،‮ ‬ودول منذرة بالخطر،‮ ‬ودول مستنفرة،‮ ‬وكان حظ العرب فيه مناصفة بين‮ “‬دول منذرة بالخطر‮” ‬وأخرى قيل إنها‮ “‬دول مستنفرة‮” ‬فيما توافقت الصحف الجزائرية على عناوين تقول على قلب رجل واحد‮: ‬‭”‬الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلاً‮ ‬في‮ ‬العالم‮”(‬هكذا؟؟‮).‬

للعام السادس على التوالي‮ ‬أصدرت دورية السياسة الخارجية‮ ‬Foreign‮ ‬Policy‭ ‬بالتعاون مع وقفية السلام‮ ‬Fund for Peace‮  ‬المقياس السنوي‮ ‬السادس للدول الفاشلة،‮ ‬والذي‮ ‬يقوم بترتيب الدول بحسب درجة إخفاقها في‮ ‬أداء الوظائف المنوطة بها‮. ‬ولمن لا‮ ‬يعلم فإن دورية السياسة الخارجية تصدر عن معهد العلاقات الخارجية الذي‮ ‬يعتبر حاضنة للصفوة الأمريكية التي‮ ‬تشغل الدولة الأمريكية العميقة،‮ ‬وأحد أبرز مراكز الأبحاث‮ ‬‭”‬الثينك تانك‮” ‬التي‮ ‬تصنع السياسات الأمريكية،‮ ‬ويشترك معه في‮ ‬إنتاج التقرير‮ “‬وقفية السلام‮” ‬التي‮ ‬أسسها سنة‮ ‬1957‮ ‬واحد من كبار الصيارفة المدعوRandolph Compton‮.‬

بعد أن تعرفنا على المصدر،‮ ‬وعلمنا بالضرورة أنه واحد من أخطر أدوات الدعاية الأمريكية،‮ ‬لابد أن نظن به ظن السوء،‮ ‬وفي‮ ‬الحد الأدنى نخضع ما‮ ‬يصدر عنه للدراسة والتمحيص،‮ ‬علماً‮ ‬أن أمثاله من دور الدراسة،‮ ‬سواء الأمريكية أو الغربية،‮ ‬أو حتى كثير من الهيئات التابعة للأمم المتحدة،‮ ‬قد اعتادت على معالجة عقولنا بتقارير مزيفة،‮ ‬تعمل في‮ ‬الغالب على زرع مشاعر اليأس،‮ ‬مع تركيز أكثر من مريب على الحالة العربية،‮ ‬وكانت مثل هذه التقارير قد استفزتني‮ ‬عشية اندلاع الربيع العربي،‮ ‬فأفردت لها مقالا بعنوان‮ “‬الأبيض من الأسود في‮ ‬نظرة الغرب النمطية للعرب‮” ‬صدر بتاريخ‮ ‬21‮ / ‬02‮ / ‬2010،‮ ‬قدّمت له بما‮ ‬يلي‮:‬

‭* ‬لابد أن نظن به ظن السوء،‮ ‬بما‮ ‬يصدر من تقارير بحثية‮ ‬غربية مزيفة،‮ ‬تعمل في‮ ‬الغالب على زرع مشاعر اليأس،‮ ‬مع تركيز أكثر من مريب على الحالة العربية،‮ ‬كما هو حال التقرير الصادر عن فورين بوليسي‮ ‬ووقفية السلام حول الدول الفاشلة‮. ‬

‭”‬هل العالم العربي‮ ‬أصبح فاقدا للثقة في‮ ‬النفس،‮ ‬حيرانا كما‮ ‬يراه تصنيفٌ‮ ‬غربي‮ ‬جديد؟ أم أن التقارير الدولية حول الحالة الصحية للعالم العربي‮ ‬هي‮ ‬جزء من عمل منهجي‮ ‬يعمل على زرع بذور الشك في‮ ‬النفس،‮ ‬وجلد الذات على أيدي‮ ‬فريق محترف من النخب العربية التي‮ ‬تقول كبنت الصدى عن سماع،‮ ‬وتقوم بدور أخطر من الدور الذي‮ ‬لعبته الفئات العميلة زمن الاستعمار؟‮”‬

كما استفزني‮ ‬اليوم تعامل الصحافة العربية مع التقرير أكثر من زيف التقرير نفسه،‮ ‬حين تنافست فيما بينها في‮ ‬توظيفٍ‮ ‬جاهل أحمق لمفرداته،‮ ‬دون أن تكلف نفسها مشقة دراسته وتمحيصه،‮ ‬وإلقاء نظرة على الطريقة التي‮ ‬تستغله دورية‮ “‬السياسة الخارجية‮” ‬لتوجيه صناع القرار في‮ ‬الولايات المتحدة‮. ‬

دعونا ندخل إلى التقرير الذي‮ ‬نُشر في‮ ‬شكل لوح بياني،‮ ‬رتب الدول في‮ ‬قائمة مقلوبة،‮ ‬لتفوز الصومال،‮ ‬وللسنة الثالثة على التوالي،‮ ‬بـ”ذهبية‮” ‬الدول الفاشلة،‮ ‬وتعود‮ “‬الفضية‮” ‬للكونغو الديمقراطية و”البرونزية‮” ‬للسودان الشقيق،‮ ‬فيما شملت الفئة الرابعة الموصوفة بـ”المستنفرة‮” ‬عشر دول عربية‮ (‬أفضلها ليبيا وأدناها الصومال ومعهما مصر،‮ ‬وموريتانيا،‮ ‬وسورية،‮ ‬ولبنان،‮ ‬والعراق،‮ ‬وجيبوتي‮) ‬وصنفت معهم معظم الدول الإسلامية مثل باكستان،‮ ‬وأفغانستان‮. ‬

وكما جرت عليه العادة في‮ ‬التقارير السابقة،‮ ‬تم تقسيم الدول وفقًا للفئات الفرعية ذاتها وهي‮ ‬وفقًا لموقع‮ “‬وقفية السلام‮” ‬كما‮ ‬يلي‮: ‬فئة‮ ‬‭”‬الدول المستنفرة‮ ‬Alert States‮ (‬وتشمل هذا العام‮ ‬37‮ ‬دولة‮) ‬وفئة الدول المنذرة بالخطر‮ ‬Warning States‭ ( ‬92‮ ‬دولة‮) ‬وفئة الدول المتوسطة‮ (‬35‮ ‬دولة‮  ‬Moderate States‮)‬،‮ ‬وفئة الدول المستقرة‮ (‬14‮ ‬دولة‮ ‬Stable States‮).‬

المجال لا‮ ‬يتسع لمناقشة المقاييس المتحيزة التي‮ ‬اعتمدها التقرير أو التدقيق في‮ ‬مصادره الإحصائية،‮ ‬كما لا‮ ‬يسمح بالتفرع كثيرا في‮ ‬المقارنات التي‮ ‬قد تفضي‮ ‬إلى معادلات هزلية،‮ ‬مثل أن تصنف دولة مجهرية من جمهوريات الموز مثل الباهاماس‮(‬133‮) ‬في‮ “‬فئة الدول المعتدلة‮” ‬رفقة الولايات المتحدة وفرنسا،‮ ‬بينما‮ ‬يصنف العملاق الصيني‮ (‬66‮) ‬في‮ ‬فئة الدول المنذرة بالخطر،‮ ‬تتفوق عليها دولة فيجي‮ (‬67‮) ‬لأجل ذلك سوف نكتفي‮ ‬بعرض أهم منتسبي‮ ‬الفئات الأربع،‮ ‬ونثق في‮ ‬ذكاء القارئ ليستنتج ما‮ ‬يشاء‮.‬

فئة الدول المستقرة‮ (‬14‮)‬‭  ‬تأتي‮ ‬على رأسها الدول الاسكندينافية،‮ ‬وفي‮ ‬طليعتها فلندا‮(‬178‮) ‬والسويد‮ (‬177‮) ‬وأدناها هولاندا‮(‬166‮) ‬وألمانيا‮ (‬165‮) ‬منها عشر دول أوروبية،‮ ‬إضافة إلى كندا وأستراليا،‮ ‬وهي‮ ‬نخبة النخبة،‮ ‬وطليعة‮ “‬الفرق الناجية‮” ‬في‮ ‬فقه‮ “‬فورين بوليسي‮” ‬و”وقفية السلام‮”.‬

فئة الدول المتوسطة أو المعتدلة‭ ‬‮(‬38‭ ‬دولة‮)‬

مقسّمة بدورها إلى ثلاث مجموعات متدرّجة من بلجيكا برتبة‮ (‬164‮) ‬إلى الكويت‮(‬137‮) ‬وهي‮ ‬الفرق‮ “‬المعصومة‮” ‬من الفشل في‮ ‬تقدير هذا المعهد الماسوني،‮ ‬فلا وجود في‮ ‬الفرقتين؛ أي‮ ‬42‮ ‬دولة مستقرة أو معتدلة،‮ ‬سوى أربع دول عربية خليجية‮: ‬قطر،‮ ‬والإمارات،‮ ‬وعمان،‮ ‬والكويت،‮ ‬فيما‮ ‬غابت بقية الدول العربية والإسلامية،‮ ‬بل وغابت دول‮ “‬البريكس‮” ‬التي‮ ‬تحتل اليوم الصدارة في‮ ‬الاقتصاد العالمي‮.‬

فئة الدول المنذرة بالخطر‮ (‬90‮ ‬دولة‮)‬‭  ‬تحت هذا العنوان صنفت‮ ‬90‮ ‬دولة،‮ ‬من بينها الجزائر‮ (‬73‮) ‬أعلاها رتبة البرازيل‮ (‬126‮) ‬وأدناها إيران‮(‬37‮) ‬والكونغو‮(‬36‮) ‬فحن هنا أمام نصف تعداد دول العالم،‮ ‬وأكثر من ثلاثة أرباع سكانه،‮ ‬ومثله من مساحته،‮ ‬قد صنفت دولهم كدول‮ “‬منذرة بالخطر‮” ‬تشكل تهديداً‮ ‬للسلم العالمي،‮ ‬أي‮ ‬تهديداً‮ ‬للفرقتين الناجيتين،‮ ‬من بينها ثلاث دول نووية‮ (‬الصين،‮ ‬وروسيا،‮ ‬والهند‮) ‬وعضوان دائمان بمجلس الأمن،‮ ‬وأول اقتصاد عالمي‮ ‬مع مجموعة‮ “‬البريكس‮”‬،‮ ‬ودول مالكة لأكثر من‮ ‬80‮ ‬في‮ ‬المائة من طاقة العالم،‮ ‬يعيش فيها مليار ونصف مليار مسلم،‮ ‬ومليار وثلث مليار بوذي،‮ ‬ومليار هندوسي،‮ ‬وأغلبية المسيحيين الروم،‮ ‬يزعم التقرير أنها تشكل‮ “‬تهديدا على السلم العالمي‮”.‬

فئة الدول المستنفرة‮ (‬35‮ ‬دولة‮) ‬تحت هذا العنوان صنفت تحديدا الدول الأكثر فقرا في‮ ‬العالم،‮ ‬والتي‮ ‬أسقطت الدولة في‮ ‬بعضها كما في‮ ‬الصومال‮ (‬رقم1‮) ‬ومعها الدول الغنية التي‮ ‬هدمها‮ “‬العقب الحديدي‮” ‬مثل العراق‮ (‬11‮) ‬وسورية‮ (‬21‮)‬،‮ ‬أو التي‮ ‬أضعفها‮ “‬الربيع العربي‮” ‬مثل مصر‮(‬34‮) ‬واليمن‮ (‬6‮)‬،‮ ‬مع أن التقرير لا‮ ‬يتحدّث صراحة عن‮ “‬الدول الفاشلة‮” ‬كما سُوِّق في‮ ‬الإعلام العربي،‮ ‬بل أورد مصطلحين مبتكرين‮: ‬هما الدول‮ “‬المنذرة بالخطر‮” ‬والدول‮ “‬المستنفرة‮” ‬في‮ ‬اعتراف ضمني‮ ‬بأن التقرير‮ ‬يريد ترتيب الدول خارج المعسكر الغربي‮ “‬التلمودي‮ ‬المسيحي‮” ‬وفق مستوى تهديدها للغرب من أحد الأوجه التي‮ ‬نكتشفها عبر تفحص المقاييس التي‮ ‬اعتمدها التقرير‮.  ‬

وقد حق لك الآن أن تستنتج في‮ ‬الحد الأدنى ملاحظتين قبل العودة لقراءة جديدة للعنوان المشترك الذي‮ ‬قدِّم به التقرير في‮ ‬الصحافة الجزائرية‮: “‬الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلا في‮ ‬العالم‮”.‬

‭* ‬ثلاث دول نووية،‮ ‬وعضوان دائمان بمجلس الأمن،‮ ‬وأول اقتصاد عالمي،‮ ‬ودول مالكة لأكثر من‮ ‬80‮ ‬في‮ ‬المائة من طاقة العالم،‮ ‬يعيش فيها مليار ونصف مليار مسلم،‮ ‬ومليار وثلث مليار بوذي،‮ ‬ومليار هندوسي،‮ ‬وأغلبية المسيحيين الروم،‮ ‬يزعم التقرير أنها تشكل تهديدا على السلم العالمي‮.‬

الأولى‭: ‬جميع الدول الأوروبية‮ (‬باستثناء البوسنة وألبانيا المسلمتين‮) ‬والغربية في‮ ‬القارات الثلاث تجدها ممثلة في‮ ‬‭”‬الفرقتين الناجيتين‮” (‬المستقرة والمعتدلة‮) ‬يشاركها من خارج أوروبا وأمريكا الشمالية،‮ ‬من آسيا‮: ‬اليابان،‮ ‬وكورية الجنوبية،‮ ‬وسنغافورة،‮ ‬ومنغوليا،‮ ‬ومن العرب‮: ‬صغار‮ “‬قوم تبّع‮” ‬من عرب الخليج بقيادة‮ “‬عقلة الأصبع‮” ‬قطر،‮ ‬ومن أمريكا الجنوبية ما بقي‮ ‬من جمهوريات الموز‮: ‬بربادوس،‮ ‬كوستاريكا وباهاماس‮. ‬

الثانية‭: ‬جميع دول‮ “‬البريكس‮” ‬بدءابالبرازيل‮ (‬126‮) ‬وجنوب إفريقيا‮ (‬113‮) ‬روسيا‮ (‬80‮) ‬الهند‮ (‬79‮) ‬والصين‮ (‬66‮) ‬صنفت مع الدول‮ “‬المنذرة بالخطر‮” ‬حتى أن الصين صنفت في‮ ‬مرتبة دون الجزائر‮ ‬‭(‬73‭) ‬وأن المغرب‮ (‬93‮) ‬وتونس‮ (‬83‮) ‬أفضل من روسيا‮ (‬80‮) ‬ولك أن‮ ‬‭”‬تثق‮” ‬أكثر بهذا التصنيف،‮ ‬إذا علمت أن أكبر دول‮ “‬البريكس‮” ‬مصنفة دون مستوى جمهوريات الموز مثل‮: ‬المالديف،‮ ‬وميكرونيزيا،‮ ‬وسورينام،‮ ‬وبيليز،‮ ‬وبرونواي‮. ‬

الآن وجب عليك أن تعود لقراءة العنوان الذي‮ ‬قدّمت به الصحف الوطنية هذا التقرير‮: “‬الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلا في‮ ‬العالم‮” ‬فهل تجد في‮ ‬التقرير ما‮ ‬يشير من قريب أو من بعيد إلى مصطلح‮ ”‬الدولة الفاشلة”؟ أم أن صحافتنا مثل الصحافة العربية قد خضعت من حيث لا تدري‮ ‬لعملية‮ ‬غرس‮ (‬صورة ذهنية سوبلومينال‮) ‬وهو ما أراده أصحاب التقرير أن‮ ‬يذاع من خلال تقريرهم،‮ ‬لتصل الرسالة وقد ترجمت بالوكالة عن هذه المحافل الناطقة باسم الدجّال،‮ ‬كما روج حامل جائزة نوبل أحمد زويل للتقرير الأممي‮ ‬الذي‮ ‬صنف العرب كقوم فاقدين للثقة في‮ ‬النفس؟

مقالات ذات صلة