-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفقه الإسلاميّ المجنيّ عليه

سلطان بركاني
  • 687
  • 0
الفقه الإسلاميّ المجنيّ عليه

تتداول بعض الصفحات والمجموعات على الفايسبوك، هذه الأيام، فتوًى غريبة لداعية يوصف بأنّه أعلم أهل الجزائر بدين الله (!) تتعلّق بدخول بعض الشّباب المتحمّس إلى بيوت الوضوء في المساجد بالجوارب، قاصدا إحياء ما يصفه بـ”سنّة المسح على الجوربين”(!) وكان غريبا أنّ المفتي استنكر على الأئمّة والجمعيات الدينيّة وضع لافتات تمنع دخول المساجد بالجوارب، كما استنكر اضطرار الشباب السنيّ إلى خلع جواربه في بيوت الوضوء وحرمانه من إحياء السنّة، بل ذهب بعيدا إلى القول بأنّ الدخول إلى بيوت الوضوء بالنعال ليس أمرا منكرا، فهناك قيّم في كلّ مسجد يتعيّن عليه أن يحمل المكنسة وينظّف بيت الوضوء!
مثل هذه الفتاوى، هي نتاج متوقّع لمنهج حرفيّ ظاهريّ يجعل منظّريه وأتباعه ينظرون إلى فقه النصوص ومراعاة تغير الواقع والحال، على أنّهما عقلانية مذمومة في مواجهة النصوص. والمصيبة أنّ هذا المنهج يجعل رؤوسه يسايرون الجهَلة المتعصّبين في جهلهم وتعصّبهم، فيفتونهم بما يزيد حماسهم غير المنضبط ويجعلهم يبحثون عن الغربة على اعتبار أنّها -في كلّ أحوالها- دليل على سلامة المنهج!
عندما يغيّب الفقه والنّظر ويُغضّ الطّرف عن مقاصد الشريعة، نفاجأ في كل مرة بمثل هذه الفتاوى التي تتحول معها الرخص المباحة إلى سنن راسخة يوصَى بإحيائها في كل الأحوال، دون مراعاة للواقع المستجدّ، ولو أدى ذلك إلى الإزراء بالنفس والدين وارتكاب حماقات تأباها الفطر السليمة! أمّا السّنن، فتتحوّل إلى فرائض لازمة، تُستلّ سيوف التجريح والتبديع في وجه كلّ من يضعها في إطارها أو يشكّك في ثبوتها! وهؤلاء الشّباب المتحمّسون الذين يسلكون هذا المنهج لا يفكّرون ولا ينبّههم شيوخهم إلى أنّ سلوكهم هذا يقزّم دين الله العظيم ويصدّ عنه العقلاء والمنصفين. خاصّة إذا علمنا أنّهم يتشبّثون بسلوكاتهم هذه في كلّ مكان، ولو كان المكان بلدا غربيا يبحث فيه النّاس عمّا يغريهم بالإسلام من مبادئ عظيمة راسخة تحضّ على العدل والحرية والمساواة، وعلى الطّهارة والنقاوة والنّظام والانضباط!
روى لي أحد الأئمّة الزّملاء، أنّه رأى شابا متسنّنا يدخل إلى المرحاض بجوربيه، فنبّه في درس الجمعة إلى هذا الخطأ في التعامل مع رخصة المسح، وأوضح أنّ الناس قديما كانوا يقضون حاجتهم على الرمل والتراب، فيأمنون ارتداد رذاذ البول إلى أرجلهم، بخلاف الحال في زماننا هذا حيث المراحيض ملساء مصمتة يرتدّ عنها رذاذ البول ليصيب القدمين! فضلا عن أنّ النعال التي تستخدم في المراحيض تكون مبتلة ومعرضة للنجاسة، وهو ما يجعل من يلبس جوربا، يحمل النجاسة في جوربيه لينقلها إلى فراش المسجد ويصلي بها!
الغريب أنّ الإمام فوجئ بواحد من رؤوس المنهج يأتيه -بعد ذلك- منتصرا لصنيع إخوة المنهج، ومحتجا على ما أورده الإمام في درسه، والأغرب أنه ضرب مثلا -يبرّر به الدخول إلى المرحاض بالجورب- بالذبابة التي تقع على النّجاسة ثم تقع على ثوب المصلي!
الفقه الظّاهريّ الأفلج، جعل هذا الرأس يقيس ما يمكن الاحتراز منه واجتنابه، بما يعسر الاحتراز منه! ويجعل من يدخل إلى المرحاض بجوربيه مختارا، كمن تقع عليه الذبابة التي تحمل النجاسة اليسيرة، غير راغب ولا مختار!
كان في الوسع النّظر إلى فتوى الشّيخ الذي يصنّف بأنّه أعلم علماء الجزائر على أنّها زلّة داعية أراد الحقّ فأخطأه، لكنّها في الحقيقة مثال من عشرات الأمثلة التي يجني فيها هؤلاء الدعاة على الفقه الإسلاميّ، ويخالفون أصوله وقواعده التي بني عليها، تعصبا لأصول محدثة أملاها التعصّب للطوائف والمناهج المحدثة.
وكمثال آخر لهذه الفتاوى التي تتنكّر لمقاصد الشّرع لصالح الطائفة، فتوى أصدرها الداعية المشار إليه آنفا عندما سأله أحد المريدين عن حكم القراءة من المصحف أثناء درس الجمعة في المسجد، مع العلم أنّ هذا التصرّف يغضب عامّة المسلمين على الإخوة. فأجاب الداعية بأنّ على السنيّ أن يقرأ من المصحف أثناء الدّرس ليتساءل العامّة فيعرفوا أنّ درس الجمعة بدعة!
هكذا يصرّ هؤلاء الرّؤوس على تحريض أتباعهم ومريديهم على مناكفة أئمّة المساجد ومخالفة “العامّة” وإيقاد الفتن في بيوتٍ يفترض أن تُرفع وتصان عن الخلافات، كلّ هذا بزعم الحرص على إحياء السنّة، مع أنّ جلّ ما يثيرون حوله الخلافات هو من قبيل المسائل المختلف فيها أو التي يصرّون فيها على التشبّث بظواهر النصوص وتسفيه من يدعو إلى فهمها وفقهها والنّظر في مناطاتها.. ومشروعية درس الجمعة -مثلا- من المسائل التي خاض فيها العلماء قديما وحديثا، والمثبتون لمشروعيته يستندون إلى فقه المصالح، وقبله إلى ما ثبت من عمل بعض السّلف، ومن ذلك ما رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه كان يخرج يوم الجمعة فيقبض على رمانتي المنبر قائما ويقول: حدثنا أبو القاسم رسول الله الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فلا يزال يحدث حتى إذا سمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام للصلاة جلس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!