-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفلسفة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭..‬كيف؟‭ ‬ولماذا‭..‬؟

الفلسفة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭..‬كيف؟‭ ‬ولماذا‭..‬؟

بدأت ملامح فجر فلسفي صادق، تلوح في سماء الفكر الجزائري القاتم، فترسل بخيوط أشعتها، مبددة بعض قتامتها، وباعثة ببعض الدفء في برودة مناخها الإيديولوجي، ومؤذنة بطلوع شمس فلسفية تشيع النور في عصر الظلام، والحب في زمن الكراهية، والتسامح في عهد التعصب والإقصاء‭.‬

‭      ‬ولعل‭ ‬مما‭ ‬يشفع‭ ‬لنا،‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المعطيات‭ ‬يمكن‭ ‬الاقتصار‭ ‬على‭ ‬أهمها‭:‬
1‭-‬‮ ‬هذا‭ ‬الأمل‭ ‬الفلسفي،‭ ‬ذو‭ ‬السبع‭ ‬سنوات،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬حلما،‭ ‬فأصبح‭ ‬حقيقة،‭ ‬وكان‭ ‬عملا‭ ‬فرديا،‭ ‬فأضحى‭ ‬جماعيا‭ ‬وجامعيا،‭ ‬وكانت‭ ‬ذكرى‭ ‬ميلاده‭ ‬السابعة‭ ‬ما‭ ‬عشناه‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬باتنة‭ ‬العتيدة‭.‬
2- هذه الرسائل الجامعية التي تناقش على مستوى الماجستير أو الدكتوراه. فلا يكاد يخلو أسبوع، على مدار السنة، دون أن تقدم رسالة جامعية في قسم من أقسام الفلسفة، في جامعات الجزائر التي أصبحت موجودة في كل أنحاء الوطن الجزائري.
وأيّا‭ ‬كان‭ ‬المستوى‭ ‬الفلسفي‭ ‬الذي‭ ‬يميّز‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل،‭ ‬والتوجه‭ ‬الإيديولوجي‭ ‬الذي‭ ‬يطبعها،‭ ‬فإنها‭ ‬تمثل‭ ‬ظاهرة‭ ‬فلسفية‭ ‬صحية،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يُشاد‭ ‬بها‭.‬
3‭-‬‮ ‬ولادة‭ ‬فرق‭ ‬البحث،‭ ‬والمخابر،‭ ‬ذات‭ ‬التخصص‭ ‬الفلسفي،‭ ‬حيث‭ ‬ينتظم‭ ‬بحث‭ ‬جامعي‭ ‬فلسفي‭ ‬جماعي‭ ‬منظم،‭ ‬يعطي‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬عندنا،‭ ‬بعدا‭ ‬عقليا‭ ‬ومنهجيا،‭ ‬ظل‭ ‬مفقودا‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬قريب‭.‬
4- انبعاث براعم فلسفية واعدة في أقسام الفلسفة بجامعاتنا، بحيث تعكس – إلى جانب الحوار الفكري الذي يطبعها – وجود ملكات فلسفية خصبة تبدد نظرية العقم العقلي التي استبدت ببعض الراصدين لتطور الفكر الفلسفي عندنا.
‭      ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬أدلل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاستعداد‭ ‬بعيّنتين‭ ‬مما‭ ‬ألقت‭ ‬به‭ ‬المطابع‭ ‬عندنا‭ ‬أخيرا،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭.‬
‭     ‬أما‭ ‬أولى‭ ‬العينتين‭ ‬فيمثلها‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬بومدين‭ ‬بوزيد،‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬بجامعة‭ ‬وهران،‭ ‬والذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‮: »‬التراث‭ ‬ومجتمعات‭ ‬المعرفة‮«‬‭ ‬‮(‬في‭ ‬176‭ ‬صفحة‮)‬‭.‬
‭     ‬وثاني‭ ‬الكتب،‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬كمال‭ ‬بومنير،‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬بجامعة‭ ‬الجزائر2‭ ‬بوزريعة،‭ ‬وعنوانه‮: »‬جدل‭ ‬العقلانية‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬لمدرسة‭ ‬فرانكفورت‮« (‬256‭ ‬صفحة‮)‬‭.‬
      إن القراءة الفلسفية لكتاب »التراث ومجتمعات المعرفة « (منشورات الاختلاف، الجزائر 2009)، تجدد العهد مع قلم فلسفي عوّدنا على الجرأة في تناول الخطاب المعرفي في توجهه العربي الإسلامي، فالمؤلف الدكتور بومدين بوزيد، يسلط الضوء في كتابه على راهنية الخطاب العربي الإسلامي في محاولة لتجاوز إشكالية الثنائية المتجددة: »نحن والآخر «. إن »واو العطف« في هذه الثنائية هو الذي يتجلى من خلال ما يقدمه الدكتور بومدين بوزيد في محاور أساسية هي: التراث والاجتهاد، والغرب وصناعة المعرفة ومراجعات وحوارات.
ففي محور التراث والاجتهاد، يبرز المؤلف قضايا مصيرية ذات حساسية خاصة مثل: تباين الآليات المنهجية واتحادها في الفكر العربي المعاصر. والمتون المغلقة والاجتهاد المفتوح، والحداثة والهوية الوطنية المأزومة، ونحو تجديد العلاقة في ثنائية نحن والتراث، والطرق الصوفية‭ ‬والتأمل‭ ‬العرفاني،‭ ‬وأخيرا‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬بن‭ ‬باديس‭ ‬وخلافه‭ ‬مع‭ ‬المتصوفة‭ ‬باسم‭ ‬التجديد‭.‬
وكما‭ ‬يبدو‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬قضية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬المطروحة،‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬فلسفية‭ ‬كبرى‭ ‬ينبغي‭ ‬البحث‭ ‬عنها،‭ ‬إما‭ ‬داخل‭ ‬التراث‭ ‬أو‭ ‬ضمن‭ ‬مقاصد‭ ‬الحداثة‭.‬
      فإذا انتقلنا إلى الغرب وصناعة المعرفة كمحور رئيسي، طالعتنا قضايا ذات أبعاد فلسفية هامة، مثل الفلسفة والبدائل المعرفية الجديدة، ومأزق خطاب التقدم، وقضيتا الهوية والقيم الرمزية في مجتمع المعرفة، وإشكالية السلطة، القوة، الآخر ضمن علاقة الكاتب بدائرة الوجود‭.‬
‭      ‬لقد‭ ‬حرص‭ ‬الدكتور‭ ‬بوزيد‭ ‬بومدين‭ ‬على‭ ‬الحفر‭ ‬ضمن‭ ‬ذاكرة‭ ‬هذه‭ ‬الثنائيات‭ ‬السائدة،‭ ‬مع‭ ‬تدعيم‭ ‬أطروحته‭ ‬بنصوص‭ ‬لمفكرين‭ ‬بارزين‭ ‬كعبد‭ ‬الوهاب‭ ‬المسيري،‭ ‬وحسن‭ ‬حنفي،‭ ‬ورضوان‭ ‬السيد‭.‬
      إن مما لا شك فيه، أن هذا الكتاب يستحق أكثر من تأملات محدودة السطور، معدودة الكلمات حتى ولو كانت في صحيفة الشروق اليومي الرائدة، وحسبنا أننا نبهنا إلى أهمية النّتاج الفكري هذا، ونترك للدارسين مهمة تخصيص المزيد من الندوات والبحوث لمؤلف يضرب بجذوره في أعماق‭ ‬تراثنا‭ ‬وواقعنا‭ ‬الفلسفي‭.‬
      فإذا انتقلنا إلى الكتاب الثاني للدكتور كمال بومنير »جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت«، فإننا نجد أنفسنا أمام إبداع فلسفي آخر يمثل مؤلفه جسرا حضاريا بين ثقافتنا وثقافة الآخر، فمؤلف الكتاب الدكتور كمال بومنير، يمثل أملا فلسفيا واعدا بالجزائر. فهو باحث شاب يغرف من ينبوعين فلسفيين هما ينبوعا الفلسفة الغربية والفلسفة العربية، وقد ساعد على ذلك امتلاكه لناصيتي الثقافتين، باقتدار، فهو ينتج بالعربية والفرنسية، ويغرف من الفلسفة بوجهيها الحضاريين العربي والغربي.
      فإذا أخضعنا كتابه جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت للتحليل، ينكشف لنا وجه مفكر يجرب قلمه في الغوص داخل أعماق الفكر الفلسفي العقلاني المعاصر، بأشكاله المختلفة لدى »مدرسة فرانكفورت الفلسفية«. ويتجلى لنا ذلك على الخصوص من خلال خمسة فصول هي: العقلانية وأشكالها لدى مدرسة فرانكفورت، والعقلانية التكنولوجية ومنطق السيطرة، وآليات السيطرة في ظل العقلانية التكنولوجية، والعقلانية التكنولوجية والتحرر، وأخيرا الرؤية النقدية لمسألة العقلانية التكنولوجية خصوصا عند هربرت ماركوز، صاحب نظرية الإنسان ذي البعد‭ ‬الواحد‭.‬
      يقدم لنا الدكتور كمال بومنير في كتابه هذا قراءة فلسفية للعقلانية التكنولوجية ومنطق السيطرة، بحثا عن جذورها لدى كل من هيدجر الفيلسوف الوجودي الألماني، وماركس منظر الماركسية، وماكس فيبير فيلسوف ثقافة المعرفة.
أما في الفصل الثالث فإن المؤلف يرسم لنا آليات السيطرة في ظل العقلانية التكنولوجية، ليحاول تجاوز الإشكالية التالية: هل العقلانية التكنولوجية تتجدد بالطابع التقني فقط؟ وهل يتم توظيفها للسيطرة على الطبيعة وحدها، أم على الإنسان أيضا؟
      هل يمكن اعتبار العقلانية التكنولوجية عامل ضغط على الإنسان، أم أنها على العكس من ذلك، كما يقول هربرت ماركوز: »إن تحرر الإنسان وانعتاقه من السيطرة، وإن اللجوء إلى المعرفة العلمية والتكنولوجية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية عامة، هو قوام هذا‭ ‬التحرر‭ ‬والانعتاق‮«‬؟‮.‬
     وبين هذه النظريات كلها، أي بين آليات السيطرة في ظل العقلانية التكنولوجية، وأدواتها كوسائل للتحرر، يغوص بنا الدكتور كمال بومنير في الحفر داخل العلاقة بين العقلانية التكنولوجية والتحرر، ليصل بنا في النهاية إلى محطة فكرية، تجسدها الرؤية النقدية لمسألة العقلانية‭ ‬التكنولوجية،‭ ‬كما‭ ‬يجسدها‭ ‬صاحب‭ ‬نظرية‭ ‬الإنسان‭ ‬ذي‭ ‬البعد‭ ‬الواحد‭.‬
      إن الكتاب ـ من وجهة نظرنا ـ نافذة فكرية عربية، على ثقافة الحداثة في طبعتها الغربية بمختلف مكوناتها الإيجابية والسلبية، كما أنه يمثل إسهاما في التعريف بهذه الحداثة، من منظور عربي إسلامي، لا يعاني أيّ انسلاب فكري، ولا أية إعاقة إيديولوجية، فهو لا ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬ليذوب‭ ‬فيها،‭ ‬وإنما‭ ‬ينقل‭ ‬تعريفاتها،‭ ‬ومقوماتها،‭ ‬ليعرضها‭ ‬على‭ ‬فكرنا،‭ ‬بكل‭ ‬أصالة‭ ‬واستقلالية‭.‬
‭      ‬إن‭ ‬الكتاب‭ ‬بمثابة‭ ‬الهلال‭ ‬الفلسفي،‭ ‬وهو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭:‬
وإذا‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬الهلال‭ ‬نموّه‭ ‬
‭             ‬أيقنت‭ ‬أن‭ ‬سيصير‭ ‬بدرا‭ ‬كاملا‮.‬
 
وبعد؛
      فقد قال كل من الدكتورين بومدين بوزيد، وكمال بومنير كلمتيهما في الراهن الفلسفي ضمن ثنائية »نحن والآخر«، وبقي على دارسي الفلسفة من طلابها وباحثيها ونقادها، أن يعمّقوا البحوث، ويستنطقوا المسكوت، في محاولة لصياغة فكر فلسفي، وطني الانتماء، عربي الاصطفاء، إسلامي‭ ‬الارتقاء،‭ ‬إنساني‭ ‬الاقتداء‭.‬
‭—————‬
‮(‬‭*‬‮) ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ – ‬جامعة‭ ‬الجزائر2‭ – ‬بوزريعة‮.‬
‭      ‬Abguessoum@yahoo‭.‬fr‭  ‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • بدون اسم

    الفجر الفلسفي الصادق الذي يستحق التنويه كذلك هو أن يتحرك قطب من أقطاب الفلسفة في الجزائر لينوه ويرفع من شأن هذه الأعمال الشابة دون غيرة ولاحسد كما عودتنا النخب الثقافية في بلادي وعطلت الاقلاع سنين خاصة في هذا المجال الذي لما يتموقع بعد في المكانة التي يستحقها في المجتمع .

  • BOUGHERARA BACHIR

    الأفصل أن نتجاوز الدراسات التي بإمكاننا تجاوزها . ومعالجة فكرة القابلية للفلسفة ثم الإنتاج بدل الشرح .فعندما نأتي بمؤلف يزخر بالأخبار . هل هذا إنتاج فلسفي .إنه إعجاب ودعوة لإيديولوجيا الفهم