-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“القاسمي”.. هل هو الرجل المناسب؟

“القاسمي”.. هل هو الرجل المناسب؟

وأخيرا أسدلت رئاسة الجمهورية الستار عن شخص عميد جامع الجزائر، وجاء قرارها باختيار الشيخ المأمون القاسمي الحسني للإشراف على الصرح الحضاري الكبير موفقًا ومطمئنا لعموم الجزائريين بمختلف توجُّهاتهم ونخبهم، إلا زمرة دخيلة المنهج وعليلة الفكر ومريضة النفس، لا ترى الخير والكفاءة في أحدٍ خارج فرقتها “الناجية” = بصكوك الغفران الحصريّة، ولا غرابة في ذلك، طالما أخرجت المسلمين بكل مذاهبهم، سوى جماعتها، من دائرة أهل السنّة والجماعة.

ربّما البعض ممن ذهب يدلي بدلوه تعقيبًا على تعيين الرجل في هذا المنصب السامي، شكلاً ومضمونًا ومهمّةً، لا يعرف مقام الشيخ القاسمي الرفيع بين أقرانه من علماء الجزائر والأمة الإسلامية قاطبة، ولا علوّ كعبه وسط النخبة الدينية والوطنية عمومًا، كما لا يفقه في الواقع مقتضيات العمادة المتشعِّبة الأبعاد.

إنّ من يعرف زاد الشيخ القاسمي في حقول المعرفة الشرعيّة بكلّ أبوابها، من علوم العقيدة والقرآن والسنّة إلى الفقه والحديث والمعاملات والتزكية، ويعلم عن ثقافته التاريخيّة وحسّه الوطني السياسي والدبلوماسي وقدراته الذاتية في تجميع الطاقات والقلوب من حوله وكفاءته في التواصل الإنساني مع الغير وبراعته في نسج شبكة واسعة من العلاقات مع الجميع، ناهيك عن تجربته الطويلة في ميدان العمل المؤسساتي التنظيمي والإداري المركزي، إنّ من يدرك كل ذلك سيقدّر هذا القرار الرئاسي حقّ قدره، فقد وضع رجل العلم والحكمة والدولة الكفء في الموقع الحساس المناسب.

من العجيب أن يجعل صغار عقول ومرضى قلوب من تصوُّف الشيخ القاسمي منقصة يقدحون بها في سيرة الرجل، وما ذلك إلا لجهلهم بقيمة التصوّف السنّي التزكوي النقيّ من الشركيّات والقبوريّات في الإصلاح الديني والاجتماعي، وجهلهم كذلك بصفحات التاريخ الثوري الناصع للطريقة الرحمانيّة التي ينتسب إليها الرجل في مقارعة الاستعمار الفرنسي، ودورها الخطير تحت نير الاحتلال في تحصين الهوية الوطنية ضدّ مشاريع الاندماج، ضمن خطة الاستيطان المادّي الذي ارتكز على استعمار الإنسان قبل الأرض بتدمير كيانه الذاتي.

صحيحٌ أنّ هناك زوايا وأعيان طرق انخرطوا بشكل أو آخر في المشروع الاستعماري إلى آخر أنفاسه، لكن من الإنصاف التاريخي إبراز المساهمة الفعالة للزوايا الوطنية في معركة التحرير منذ السنوات الأولى لدخول الجيش الفرنسي وإلى غاية اندلاع الثورة المسلحة الكبرى، حيث التحق روادها بصفوف المجاهدين، بينما تحوّلت فروعها إلى قلاع ثورّية متقدمة.

أمّا الشهادات الجامعية البرّاقة فهي على أهميتها ليست معيارا فاصلا في الحكم على الأهليّة العلميّة من عدمها لرجال ترعرعوا في سياقات تاريخية خاصّة لا تخفى ملابساتها عن أحد، بل تحدّدها تزكية العلماء الموثوقين لمنزلتهم بين أهل العلم، مع أنّ الاضطلاع بالعمادة المسجديّة يختلف أصلاً عن وظيفة التدريس الجامعي عند أولي الألباب.

أمّا إذا عُدنا إلى القراءة الرمزيّة لخلفيات الاختيار، فواضح أنّ المأموريّة تتعلّق بتكريس المرجعية الدينية الوطنية في مواجهة موجات الغزو الثقافي والاختراق الديني المدعوم من دوائر البترودولار، لأغراض محسوبة بدقّة عند أصحابها، حيث يجسّد الشيخ القاسمي الصورة التاريخية المغاربيّة للإسلام، منهجًا وفهمًا وسلوكًا.

لقد وقع تساهلٌ كبير منذ ربع قرن مع الفكر الديني الوافد والمشبوه، بل وصل الأمر إلى توظيفه سياسيّا بطريقة ساذجة غير محسوبة العواقب، باسم تجفيف منابع الإرهاب ومطاردة ما يسمّى في أدبيات العلمانيين بـ”الإسلام السياسي”، لكن النتيجة العكسية أفرزت اليوم تغوّل التطرُّف العقدي والفقهي والانفلات في الفضاء المسجدي، بالتشكيك في كل المرجعيّات الدينيّة الوطنية، إلى درجة تهديد منظومة الأمن الفكري الديني في الجزائر.

إنّ المهمّة الحضاريّة المنوطة بجامع الجزائر وعميدها المكلّف والمشرّف بهذه الثقة ستكون الاستجابة لتحديّات الفكر الغازي المتطرِّف والمسيَّر عن بُعد من عواصم الخليج، وكذلك الارتقاء إلى مستوى رهانات العولمة في بُعدها المادي الهادم للقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية الفطريّة، لما يشكله كلاهما من خطر محدق بعقول شباب الأمّة وضمانات الاستقرار العامّ.

لكنّ تحوّل هذه المؤسسة إلى مركز إشعاع ديني وحضاري في الجزائر وجوارها الساحلي الإفريقي، مرهونٌ بتوفّر الإرادة العليا الواعية والرؤية الذكية الثاقبة لشروط النجاح المأمول، وفي مقدِّمتها تحرير الجامع من التوظيف الآني وضيّق الأفق، وتركه يعمل ضمن منظور وطنيّ إقليميّ عامّ و خادم للمصلحة العليا للدولة الجزائريّة، لأنّ الهياكل الكبيرة تبقى محدودة التأثير وقد تصبح عديمة الجدوى، في غياب مشروع وطني أصيل ببرنامج واقعي ودقيق، يحدد بوصلة الاتجاه ويرسم الأهداف المنشودة ويستجمع مقوّمات التفوّق، بالاستثمار في كل الطاقات والفرص المتاحة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    بارك الله فيك