-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القذافي‭ ‬والزحف‭ ‬‮”‬الأحمر‮”‬‭ ‬

أحمد عظيمي
  • 5729
  • 4
القذافي‭ ‬والزحف‭ ‬‮”‬الأحمر‮”‬‭ ‬

يورد فؤاد بن حالة في كتابه “صدمة الاتصال الشمولي. الأنظمة والمجتمعات العربية في مواجهة التحدي”، الصادر سنة 2005 بباريس، والذي سبق لي أن ترجمته إلى اللغة العربية ونشرت الترجمة من طرف مؤسسة “لاناب” في نفس سنة صدوره باللغة الفرنسية، يورد ما قاله موبوتو، رئيس الزئير، قبل حوالي عشر سنوات، لوزير عربي كان في زيارته، حيث أعلن له عن إفلاس الأنظمة الديكتاتورية قائلا بالحرف: “لقد أفلسنا، نحن القادة الأفارقة؛ على المستوى الخارجي، لن يمكننا بعد الآن اللعب على المنافسة بين الشرق والغرب؛ وعلى المستوى الداخلي فإن شعوبنا شاهدت على الشاشة مانديلا والجماهير السوداء تواجه النظام الأبيض لبريتوريا ولن تتأخر في القول: لماذا ليس نحن في مواجهة الأنظمة القائمة؟ الناس شاهدوا أيضا كيف عومل القادة الشيوعيون لأوروبا؛ بل كيف قتلوا، مثل ما وقع في رومانيا. من المؤكد أنهم سيفكرون بأن نفس الشيء‭ ‬ممكن،‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭.‬‮”‬

  • كذلك قال موبوتو، الذي لم يعمر في الحكم طويلا بعد هذا الكلام فقد كان ضحية لانقلاب عسكري في بلده، لكن كلمة موبوتو هي جد معبرة وسابقة لأوانها، فالرجل قرأ المستقبل وأدرك بأن تكنولوجيات الاتصال، التي بدأت تغزو الدول الإفريقية في ذلك الوقت، ستحدث ثورة حقيقية في الذهنيات‭ ‬وفي‭ ‬إدراك‭ ‬الواقع‭ ‬وفي‭ ‬تطلعات‭ ‬الشباب‭.‬
    تذكرت مقولة موبوتو وأنا أتابع خطاب معمر القذافي الذي بدا فيه وكأن الرجل خارج، بلباسه وبكلماته التي ألقاها، لتوّه من إحدى مغارات التاريخ القديم. هو برهن، من خلال خطابه الأخير، بأنه لم يفهم ما حدث ويحدث حوله خلال العشر سنوات الأخيرة.
    يبدو أن إشكالية قدرة الحاكم العربي على فهم التغيرات الجذرية التي تحدث في العالم تطرح بحدة في هذه الفترة بالذات، وذلك لأسباب عديدة منها أن عدم إدراكهم لأحداث المستقبل والتهيؤ لها قبل وقوعها من شأنه أن يعطل حركية المجتمع ويعرض هذه الشعوب لأخطار كبيرة الكل يعرف بأنها آتية إن لم يحدث التغيير العميق على مستوى كل مؤسسات الدولة لتحويرها وتحديثها بما يخدم مستقبل البلد؛ فإذا أخذنا حاكم ليبيا كمثال لهؤلاء الحكام فإننا نجد بأن الرجل بمستواه التعليمي وبطبيعة تكوينه ومساره المهني ونظرته للأمور السياسية تجعل منه أكبر عدو‭ ‬لليبيا‭ ‬وللشعب‭ ‬الليبي‭.‬
    الرجل جاء من الجيش وبدون أية شهادة جامعية مما جعله يسيّر أمور الدولة بنفس طريقة تسيير ثكنة عسكرية. المعروف في المجال العسكري أن على كل فرد أن يطبق التعليمات حرفيا دون نقاش، وإن كان لا بد من إبداء رأيه فلا مانع من ذلك، لكن بعد تنفيذ الأوامر. هذه العقلية التي تربى عليها القذافي والتي هي جد ضرورية في تسيير شؤون أي جيش، هي في نفس الوقت جد مضرة عندما تطبق في المجال السياسي لأنها تؤدي مباشرة إلى الديكتاتورية وتحرم المواطنين من حقهم في التعبير وفي الاختيار. نتذكر هنا التبريرات التي كانت تقدم في الجزائر أيام الحزب الواحد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬النقاش‭ ‬حر‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬هياكل‭ ‬الحزب‭ ‬وضمن‭ ‬الاختيار‭ ‬الاشتراكي‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يواصل‭ ‬القذافي‭ ‬التمسك‭ ‬به‭ ‬ويستمر‭ ‬في‭ ‬فرضه‭ ‬على‭ ‬شعبه‭.‬
    القذافي هو أيضا نتاج ثقافة تراثية تدعو إلى تقبيل يد كبير القبيلة وشيخها والاستماع إلى كلامه وكأنه منزل لا يدخله الشك ولا يقبل أي ريب، مما يجعله يرى في كل حركة احتجاجية ثورة لا أخلاقية على طاعة الكبير الذي يفترض في الجميع الاستماع إليه واحترام إرادته والعمل بإرشاداته. هذا التوجه هو راسخ في ذهن القذافي وقد أكده في خطابه الأخير عندما ذكر كلمة قبيلة ست مرات؛ والغريب في الأمر أن الرجل الذي دمر كل الهياكل الإدارية التقليدية في ليبيا، منذ وصوله إلى الحكم، لبناء ما أسماه بالجماهيرية، يعود وهو في حالة غضب وفي خطاب غير‭ ‬مكتوب،‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬القبيلة‭ ‬والقبائل‭. ‬
    القذافي، لم يصل، مثله مثل باقي الحكام العرب، إلى الحكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي فهو يخشى أية حركة قد تطيح به كما أطاح هو بالملك السنوسي، لذلك أحاط نفسه بأبنائه وأقاربه والمتملقين، وهؤلاء جميعا يعملون على استنزاف الثروات الوطنية بدون حسيب، كما قد يغلطونه من خلال حجب الحقائق عنه، فقد قالها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي في خطابه الأخير عندما اعترف بأنهم غلطوه وأنهم حجبوا عنه الكثير من الحقائق. هذه مصيبة الحاكم العربي لأنه لا يحلو له الاستماع سوى لمن يمدحه ويغني بمنجزاته وبمكارمه وبعبقريته وذكائه الخارق. هناك، من الرؤساء العرب، من أقام أقاربه حوله سياجا حقيقيا لا يسمحون لأصحاب الرأي الحر أو الذين قد يفيدونه بالحقيقة بالوصول إليه. القذافي، حوّل كل ليبيا إلى مسرح مفتوح للحديث عنه وعن إنجازاته وحروبه الدونكينشوتية. كل ما في ليبيا يغرّد بحمد معمر وبنعمته وبالأمجاد التي حققها لليبيا. في خطابه الأخير كرر كلمة المجد والأمجاد عشر مرات، مما يعني أن الرجل مقتنع، وهذه الطامة الكبرى، بأنه حقق لليبيين أمجادا يحسدهم سكان العالم كله عليها.
    القذافي، وصل إلى الحكم بدون تجربة، فقد تخرج من الكلية الحربية سنة 1966، بعد ثلاث سنوات من التكوين بين ليبيا وبريطانيا، ليقوم بانقلاب عسكري سنة 1969 وهو برتبة نقيب في سلاح الإشارة. الرجل، أصبح رئيسا لأكبر دولة بترولية في شمال إفريقيا وهو في سن السابعة والعشرين من العمر وبدون أي تأهيل سياسي أو اقتصادي أو إداري. حكم ليبيا وليس لديه أي مشروع أو أي تصور لكيفية تسيير أمور الدولة، فكان أن حوّل الانقلاب العسكري إلى ثورة وضع لها كتابا اختار له اللون الأخضر على غرار اللون الأحمر للشيوعية. الكتاب الأخضر، الذي جعله القذافي وزبانيته في مرتبة الكتب المنزلة، ليس فيه من عمق النظرية ووضوح الطرح وعلمية المعالجة للقضايا الدولية المطروحة أي شيء. محتواه عبارة عن جمل متراصة الواحدة تلو الأخرى لطرح تصورات شبيهة بتصور أطفال في المراحل الابتدائية. هذا الكتاب، صرف عليه القذافي ملايين الدولارات، من المال العام، لنشره عبر المعمورة ولرشوة بعض الكتاب المغمورين في العالم من أجل الكتابة حوله وتحليل محتواه وتقديم ما يكتبون خلال مهرجانات ضخمة تنظم بليبيا لإقناع المواطنين الليبيين بأن من يحكمهم هو عبقري يتسابق كبار العلماء في العالم، الغربي على الخصوص، للإطلاع على فكره ودراسته وتحليله وإفادة البشرية جمعاء منه. أذكر هنا حادثة وقعت في إحدى المكتبات الجامعية الكبيرة بفرنسا، حيث استنجد طالب ليبي بطالب جزائري ليساعده في البحث عن ثلاثة كتب حول الكتاب الأخضر، قال الطالب الليبي إنها نشرت بفرنسا لمفكرين فرنسيين كبار وبمجرد الاطلاع على أسماء الكتاب وعناوين تلك الكتب، نصح الطالب الجزائري زميله الليبي بعدم البحث عن هذه الكتب لأنه لا وجود لها في فرنسا، كما أن لا قيمة لكتابها في هذا البلد، وشرح له كيف تقوم أجهزة القذافي، من سفارات وغيرها، برشوة بعض الأوروبيين المغمورين ليؤلفوا، مقابل مبالغ من المال، حول القذافي وكتابه الأخضر، ثم تتولى هذه الأجهزة طباعة الكتب بالمال الليبي وتوزيعها مجانا عبر أنحاء العالم كما تقوم بدعوة “المؤلفين” لإلقاء محاضرات وتنظيم ندوات بليبيا وترتب لهم لقاءات مع الزعيم الليبي الذي يكرم وفادتهم ويمنحهم الأوسمة والدولارات. الطالب الليبي لم يصدق في البداية زميله الجزائري لكن بعد فترة من الوقت، وبعد بحث طويل عن الكتب التي ألفت عن القذافي وعن قيمة مؤلفيها آمن بأن الأمر كله هو عبارة عن تمثيل في تمثيل.
    لعلّ‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬القذافي‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الحكام‭ ‬العرب‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬إما‭ ‬فاقد‭ ‬للوعي‭ ‬وإما‭ ‬ممثل‭ ‬بارع‭.‬
    أشياء عديدة، ومواقف بالمئات، وتصريحات بالآلاف، وألبسة تتلون باستمرار، وخيمة وناقة تكلفان، حسب بعض التصريحات، 300 ألف دولار لنقلهما في كل مرة، كل هذه الأمور تبين بأن الرجل إما فاقد للوعي أي مخبول أو أنه ممثل بارع.
    حالة فقدان الوعي تظهر باستمرار من خلال كلامه وتصرفاته، وحتى لا نعود إلى الماضي، نكتفي فقط بما جاء في خطابه الأخير حيث يصرح، هكذا وبلا (حشمة) بأن عدد الطائرات الأمريكية التي ضربت بيته وكانت تنوي اغتياله بلغ 170 طائرة مدعمة بأربعين أخرى للوقود. لا أتصور أن عاقلا يقول مثل هذا الكلام لأن آخر إنسان فوق الأرض لا يفقه شيئا في العسكرية يدرك بأن هذا العدد من الطائرات لم يستعمل دفعة واحدة حتى في أكبر الحروب ضراوة، وأن الأساطيل الأمريكية موجودة في البحر المتوسط على مقربة من السواحل الليبية ولا تحتاج الطائرات العسكرية للتزوّد بالوقود في الجو. العملية كلها كانت مجرد إغارة بثلاث أو أربع طائرات على مقر سكن القذافي الذي أعلم مسبقا، من جهة ما، بأن طائرات أمريكية ستغير على مسكنه مما مكنه من الانتقال مع زوجته وأبنائه إلى جهة أخرى، ولم يترك في البيت سوى طفلة صغيرة كان تبناها فماتت في القصف واستغل القذافي موتها للقول بأن الأمريكان قتلوا ابنته، كما استغل القصف ليضيف كلمة “العظمى” إلى اسم بلده على أساس أن ليبيا دخلت في حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية وانتصرت عليها.
    حالة انعدام الوعي، تظهر أيضا من خلال حديثه عن المجد الذي حققه لليبيا، وهي الكلمة التي كررها عشر مرات ليقول بأن ليبيا تقود اليوم كل إفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا. هنا أيضا لا يمكن تصور أن عاقلا يقول كلاما كهذا، ولا بأس أن نعود إلى الطالب الليبي الذي قال مرة لصديقه الجزائري بأن ليبيا هي اليوم دولة عظمى، فما كان من الجزائري سوى أن يسأله: هل تصنعون الإبرة أم تستوردونها؟ وهل تصنعون إطارا أو عجلة سيارة أم تستوردونها؟ وهل توجد براءات اختراع مسجلة بأسماء مخابر بحث موجودة بليبيا؟ وأمام تساؤلات الجزائري بدأ الطالب الليبي يستعيد بعض وعيه ليكتشف بأن معمر جعل كل الشعب الليبي يقتنع بأن ليبيا هي دولة عظمى وأنها في مصف الدول الكبرى بينما هي في زمنه، أصبحت في الحضيض لأنها لا تنتج أي شيء بل إن القذافي جعل الشعب الليبي من آخر الشعوب إنتاجا لأنه يقضي جل وقته في المهرجانات والمسيرات،‭ ‬ومن‭ ‬كذّب‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬عليه‭ ‬سوى‭ ‬التفرج‭ ‬على‭ ‬القنوات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬الليبية‭.‬
    إذن الرجل فاقد للوعي وسعى بكل قواه إلى إفقاد الليبيين إدراك حقيقة الوضع. هذه الحالة كانت قائمة وممكنة لحد السنوات الأخيرة، حيث فرضت التطورات الحاصلة في مجال تكنولوجيات الإعلام والاتصال فتح المجال أمام الليبيين للاطلاع على العوالم الأخرى، فاكتشفوا فجأة بأن كل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬لهم‭ ‬خلال‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬كذب‭ ‬وخداع‭ ‬وتدجيل‭ ‬فثاروا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلها‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬
    أخيرا‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬المطروح‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬القذافي‭ ‬فعلا‭ ‬فاقد‭ ‬للوعي،‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬ممثل‭ ‬بارع‭ ‬تقمص‭ ‬دور‭ ‬الثوري‭ ‬والزعيم‭ ‬ليخرب‭ ‬ليبيا‭ ‬ولينشر‭ ‬الشقاق‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬وبين‭ ‬الأفارقة‭ ‬وبين‭ ‬المسلمين‭ ‬لصالح‭ ‬جهات‭ ‬معينة؟
    هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يطرح‭ ‬أيضا‭ ‬لأن‭ ‬دوره‭ ‬موجود‭ ‬ومعروف‭ ‬في‭ ‬زعزعة‭ ‬أمن‭ ‬واستقرار‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬وفي‭ ‬خلق‭ ‬الفوضى‭ ‬غير‭ ‬خلاقة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القارة‮.‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • حمزة المسلم

    لا أظنه ممثلا بارعا بل هو . مجنون فاقد الاهلية .
    أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :......وينطق فيها الرويبضة ...... قالوا وماالرويبضة يارسول الله ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة. رواه ابن ماجه وصححه الالباني.

  • بدون اسم

    العاب

  • بدون اسم

    العاب

  • بدون اسم

    العاب