-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القرآن أكبر منك يا بالودان

القرآن أكبر منك يا بالودان

ظهرت في أمريكا وأوروبا عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حركة عنصرية معادية للإسلام، يرعاها اللوبي الصهيوني الذي اتخذ من بعض الدول الاسكندنافية مرتعا له على غرار السويد والدانمارك وفنلندا، ثالوثٌ أوروبي يرى العالم فيه تلك الصورة المشرقة كونه نموذجا للديمقراطية وحماية الحريات ولكنه لا يرى الصورة الأخرى القاتمة كونه عنوانا كبيرا للحرب على الإسلام، فالسويد والدانمارك وفنلندا هي ملتقى بعض المتطرفين الذين يرون في الإسلام وفي الوجود الإسلامي خطرا على كيانهم الهوياتي وإرثهم الثقافي ولذلك تجدهم أحرص الناس على استغلال أي فرصة للاستخفاف بالإسلام واستفزاز مشاعر المسلمين كما فعل المتطرف السويدي الدانماركي راسموس بالودان” في محيط السفارة التركية في ستوكهولم.

بالودان ذو تكوين قانوني، انخرط في سلك المحاماة وعرف بتأسسه في القضايا ذات الطابع العنصري المرفوعة ضد مهاجرين مسلمين على وجه الخصوص لأنه يمثل الجناح اليميني المتطرف الرافض للوجود الإسلامي وللهجرة غير الغربية. ويمثل بالودان سياسيا الخط المتشدد الذي يعرف -علاوة على رفضه للمهاجرين غير الغربيين- بانتقاده الشديد للنظام وقد حُكم عليه بسبب آرائه العنصرية بعقوبة الحبس غير النافذ وبالمنع من ممارسة المهنة لمدة معلومة.
يعيش بالودان منذ مدة في عزلة قسرية ولكنه يظهر بين الفينة والأخرى كما حدث في المرة الأخيرة التي قام فيها بحرق المصحف تنديدا –كما زعم– بموقف تركيا الرافض لانضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو. وحاول بالودان مد نشاطه العدائي ضد الإسلام إلى الدول الأوروبية من أجل كسب متعاطفين جدد ولكنه فشل في ذلك فشلا ذريعا إذ لقي معارضة كبيرة من أنصار العيش المشترك أرغمته على البقاء داخل أسوار المجتمعات الاسكندنافية التي بها نسبة قليلة من المهاجرين مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى على غرار فرنسا التي تعرّض فيها لردة فعل قوية أجبرته على مغادرة البلاد بسبب الرفض الشعبي والرسمي في آن واحد، فهو مسجلٌ في فرنسا تحت رقم “س” الذي يعني أنه شخصٌ غير مرغوب فيه وممنوع من الإقامة على التراب الفرنسي لأنه يشكل –حسب التشريع الفرنسي- خطرا محتملا على الأمن الوطني الفرنسي.
يؤمن راسموس بالودان بنظرية “الاستبدال العظيم” أي احتمال حلول المهاجرين المسلمين محل السكان الأصليين في أوروبا، وهو ما يعدّه مؤامرة من أجل أسلمة أوروبا، وقد تعاظم هذا الهاجس في نفس بالودان ما جعله يعلن حربا من دون هوادة ضد تمدّد الإسلام في أوروبا، ورأى أن استهداف المصحف الشريف يعدّ أقصر الطرق لتحقيق أهدافه العنصرية لما يمثله المصحف من رمزية في حياة المسلمين كما صرح بذلك لبعض وسائل الإعلام.
لا أدري كيف أصف سذاجة بالودان الذي يظن أن حرق المصحف سيسبِّب نكسة للمسلمين وسيجلب له أنصارا محتملين، غير أن السحر انقلب على الساحر وثار العالم الإسلامي تؤيده تياراتٌ عريضة من أصحاب الفكر المعتدل ضد مهاترات بالودان وصار المطلوبَ الأول لدى أنصار العيش المشترك.
إن النكسة التي انتظرها بالودان في العالم الإسلامي قد انطلت عليه وعلى السائرين في ركابه، فهو يعيش منذ فعلته الشنيعة في حالة رعب بسبب الغضب الإسلامي العارم الذي انتشر في كل العالم، وسيعيش بقية حياته خائفا مستخفيا مثل سلمان رشدي الذي لا يبرح منزله إلا بحبل من حمايته الخاصة وعيونه المستأجَرة. من السذاجة أن يعتقد بالودان أن الإساءة إلى القرآن الكريم ستمر بسلام وأن غضب المسلمين ظاهرة آنية ستُطوى آثارها بعد حين، فالقرآن الكريم هو سر وجودنا وعنوان عزتنا ولا نقبل أن تمر فعلة بالودان من دون عقاب وهي امتحانٌ للديمقراطية العالمية وللتشريعات الدولية التي تجرِّم ازدراء الأديان والتهجّم على الرموز الدينية.
ما عادى أحدٌ القرآن الكريم إلا خاب وحل عليه العقاب، وما اعترض أحد سبيل الإسلام إلا لحقته اللعنة وشملته النقمة، وما عادى أحد نبي الإسلام إلا شرب من كأس الهوان وانتهى ذليلا حقيرا كالهوام، وسيرينا الله في بالودان عجائب قدرته، لا نقول هذا من باب ضعف عن الرد أو عجز عن النقد بل من باب ثقتنا في عدل الله المطلق أن يعاقب بالودان بما يستحق فهو القاهر الذي يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
من حق المسلمين أن يغضبوا لقرآنهم وينتصروا لإسلامهم، ولكن بطريقة عقلانية تختلف عن همجية المعتدي حتى يبرهنوا للعالم بأنهم أصحاب رسالة وبأنهم أتباعُ من لا ينطق عن الهوى وليسوا أتباع هوى، وأريد هنا أن أعلق على بعض التصرُّفات التي قام بها مسلمون غاضبون في تركيا وفي بعض البلاد الإسلامية بإقدامهم على حرق العلم السويدي، وهو تصرفٌ يضر المسلمين أكثر مما ينفعهم ويصب في صالح عدوهم ويُنقص من اهتمام المجتمع الدولي بقضيتهم وسيفسر ما قام به بالودان وما قام به المسلمون من قبيل الفعل ورد الفعل أو العنف المتبادل. إن مبدأ المعاملة بالمثل لا يصلح في كل الأحوال، ففي قرآننا تأكيد على أن سب الذين كفروا قد يدفعهم إلى سب الذات الإلهية، يقول الله سبحانه وتعالى: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم” (الأنعام 10) .

 النكسة التي انتظرها بالودان في العالم الإسلامي قد انطلت عليه وعلى السائرين في ركابه، فهو يعيش منذ فعلته الشنيعة في حالة رعب بسبب الغضب الإسلامي العارم الذي انتشر في كل العالم، وسيعيش بقية حياته خائفا مستخفيا مثل سلمان رشدي الذي لا يبرح منزله إلا بحبل من حمايته الخاصة وعيونه المستأجَرة.

إن الانتصار للإسلام لا يكون بحرق الأعلام وإنما بتجنيد نخبة فكرية وفقهية في وسائل الإعلام، تفضح المعتدي وتكشف المستور وتشفي الصدور وتعرّي اليمين المتطرف وتبيِّن للعالم أيهما أحق بوصف التطرف: الجلاد المعتدي أم الضحية المعتدى عليه؟ بهذه الطريقة يمكننا أن نربح المعركة ضد بالودان وضد كل متحامل على الإسلام. إن وقع الكلمة على الخصم المتشدد أشد من وقع الحسام المهند فما أحوجنا إلى دعاة يدافعون عن شرف الأمة بالتي هي أحسن ولا ينجرُّون إلى معركة السباب والسباب المتبادل فيستوون هم وخصومهم.
قرأنا في تعليق رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون على حرق المصحف أمرا مريبا، إذ يقول: “حرية التعبير جزء أساسي من الديمقراطية، ولكن ما هو قانونيٌّ ليس بالضرورة أمرا ملائما” ولكنه استدرك بالقول: “إن حرق الكتب المقدسة للكثيرين فعلٌ مشين للغاية”. وعبر كريسترسون عن تعاطفه مع المسلمين الذين شعروا -كما قال- بالإساءة لما حدث في ستوكهولهم. إن التعاطف مع المسلمين يكون بتحريك القضاء وتقديم المعتدي إلى العدالة ولا يكون برسالة دبلوماسية تغلب عليها المجاملة وتلفها الضبابية. إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى رسائل تطييب الخواطر بل إلى تصرف عاجل يرغم أنف المتحامل ويقطع شأفة الباطل.
إن هول الحادثة يجب أن لا يُفقدنا الحكمة ويبعدنا عن الجادة، فبالودان وأتباعه من اليمينيين المتطرفين قلة منبوذة في السويد وما حولها، ففي هذه البلاد الاسكندنافية كثير من المعتدلين، وهي الحقيقة التي عاينتُها عن قرب من كثرة سفرياتي إلى السويد والدانمارك وفنلندا وغيرها، إذ لم أتعرّض لمضايقة أو موقف يدل على الكراهية والعنصرية وأنا أجوب الأرض الاسكندنافية كل عام طولا وعرضا.
لم أقرأ للفاتيكان بيانا رسميا حول حرق المصحف، ولكن حسبي أن أذكر ببيانه الصادر قبل سنوات بعد عزم القس الإنجيلي “تيري جونز” حرق نسخ من القرآن الكريم في ذكرى حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهذا مقطع مما جاء في رسالة الفاتيكان حينها: “أمام أعمال العنف لا يمكن أن يضع أحدٌ كتابا مقدسا من قبل جماعة دينية موضع جدل، لأن لكل ديانة، ولكل كتاب مقدس، ومكان عبادة، ورمز ديني، الحق في أن يكون محترما ومحميا، إنه احترام وليد كرامة الأشخاص”.
أختم هذا المقال بما جاء في رسالة الأزهر ردا على حادثة حرق المصحف الشريف: “يعيد الأزهر التأكيد على أن هذه الأفعال الإجرامية الصادرة من الهمج لن تنال من حرمة المصحف الشريف في قلب إنسان متحضر، وسوف يظل في عليائه كتابا هاديا للإنسانية جمعاء، وموجِّها لها إلى قيم الخير والحق والجمال، لا تنال من قدسيته أحقادُ الضالين المجرمين، ولا تصرفات باعثي التعصُّب والحقد والنفوس المريضة، من أصحاب السجلات السوداء في تاريخ التعصب والكراهية وحروب الأديان”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!