الرأي

اللغة العثمانية واللغة التركية.. صراع الحرف العربي والحرف اللاتيني

محمد بوالروايح
  • 12546
  • 26
ح.م

سقطت الدولة العثمانية فتبعها سقوط اللغة العثمانية، و آثر “كمال أتاتورك” الحرف اللاتيني على الحرف العربي وهذا ضمن خطته التغريبية العلمانية التي تهدف إلى تمييع وتطويع كل ما هو إسلامي لتطليق الماضي الظلامي-كما يزعم- واعتناق الحاضر التنويري ؛ وكنتيجة لما يسمى في بعض الأدبيات السياسية “بريستوريكا” كمال أتاتورك، نشأت أجيال في تركيا الحديثة لا تفقه قراءة الأرشيف العثماني ولا يفقه أكثر الأتراك من لغة أجدادهم العثمانيين إلا ما تيسر،و لا يعرفون من الانتصارات التاريخية الكبيرة للخلافة العثمانية المترامية الأطراف إلا ما ترجم منها إلى اللغة التركية التي بينها وبين اللغة العثمانية –بحسب المتخصصين –اختلافات كثيرة، ولعله من المفيد قبل الخوض في هذه الاختلافات بيان الفرق الاصطلاحي القائم بين اللغة العثمانية واللغة التركية، فاللغة التركية هي اللغة الرسمية المعتمدة في تركيا كتابة وقراءة وليس هذه اللغة هي واحدة من لغات تركية كثيرة منتشرة في آسيا وفي الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي وفي غيرها من الدول الممتدة جغرافيا بين تركيا والصين، ومن اللافت للنظر-كما يذكر المختصون- أن هذه اللغات التركية بينها تقارب وتباعد أو بينها بمعنى أدق اختلافات قليلة أو كثيرة لا يمكن نكرانها، وأما اللغة العثمانية فهي اللغة التركية القديمة وهي اللغة الرسمية التي كانت معتمدة وسائدة في زمن الخلافة العثمانية جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، وهي لغة هجينة تشتمل على كما هائلا من المفردات العربية والتركية والفارسية، وتكتب بأبجدية عربية مع بعض التعديلات في ما يخص أشكال الحروف وبعض القواعد المتصلة بالنطق بحسب اختلاف المكان، وتجدر الإشارة إلى أن الاختلافات بين اللغتين العثمانية والتركية ليست هي ليست موطن الاختلاف الوحيد بينهما بل الاختلاف بينهما أدق وأعمق، واللغة التركية ليست هي اللغة العثمانية بأحرف لاتينية كما أن اللغة العثمانية ليست هي اللغة التركية بأحرف عربية، وبناء على ذلك فاللغتان ليستا وجهين لعملة واحدة –كما يشاع في بعض الأوساط اللغوية والثقافية التركية – ويكفي للدلالة على ذلك أن مترجم اللغة التركية لا يمكنه ترجمة النص العثماني ولو كان ملما بالأبجدية العربية والعثمانية بل لا بد له من الإلمام ببعض المفردات العربية والفارسية، وهذا هو السبب الجوهري الذي يجعل أغلب الأجيال التركية الحديثة تعيش حالة غربة حقيقية مع اللغة العثمانية، غربة ترتبت عنها قطيعة ولو بمستويات محدودة.

يستغرب بعض المهتمين باللغة التركية استخدامنا لمصطلح الصراع بين الحرف العربي والحرف اللاتيني ويعدونه نوعا من محاولة قطع الرحم اللغوية –إن صح التعبير- بين اللغة العثمانية واللغة التركية اللتين تنتميان إلى مورد واحد وتخرجان من مشكاة واحدة، وكما يقال “إذا عرف السبب بطل العجب”، فالوثائق التركية تؤكد ما هو أخطر وأكبر من الصراع وهي سياسة التتريك التي انتهجتها تركيا الحديثة التي وضع أسسها “كمال أتاتورك” ومن أهم مظاهر هذه السياسة تتريك اللغة علاوة على تتريك الدولة وتتريك السياسة وذلك بتنقيتها بشكل تدريجي من المفردات غير التركية العربية في الأساس وتطعيمها في المقابل بمفردات من اللغات الأوروبية والغربية، وقد يعتقد البعض أن هذه العملية لا غبار لها وهي نوع من التنقية اللغوية التي تلجـأ إليها الدول والشعوب لوصل لغتها بالأصل وتنقيتها من كل دخيل، يبدو هذا المبرر منطقيا وواقعيا لا يختلف فيه اثنان ولكن أي تنقية لغوية هذه التي تحتفي بالوافد الأوروبي والغربي وتضيق “بالوافد ” العربي هذا رغم أن المحققين يقولون إن اللغة التركية أصولها عربية وهي مسألة سيأتي بيانها لاحقا. من نتائج سياسة التتريك المنظم والممنهج بروز حاجز لغوي بين الشعب التركي وتراثه العثماني الإسلامي إلى درجة أن التركي المعاصر لا يفهم ما كتب على قبور أجداده باللغة العثمانية إلا أن يستعين بمترجم، وربما تتعدى مضار وآثار سياسة التتريك الحاجز اللغوي إلى تحفيز صراع الأجيال بين الأجيال التركية المتعاقبة.

غابت اللغة العثمانية أو غيبت بالأحرى في المجتمع التركي وقبرت كما قبرت الخلافة العثمانية ولكنها عادت من بعيد بفضل حرص بعض الغيورين على كل ما هو عثماني إسلامي، ليس لاستعادة مجد مفقود -لا أمل في عودته- بل لاستعادة جزء من الذاكرة وعنصرا من عناصر الهوية ولو على طريقة ” ما لا يدرك كله لا يترك جله”. من الأمانة أن أشير في هذا الصدد إلى الجهود التي بذلتها حكومات “العدالة والتنمية” على وجه الخصوص لفسح المجال لعودة قوية وواعدة للغة العثمانية وذلك ضمن مخطط شامل اعتمده تيار العثمنة الذي من أهدافه القريبة وصل المجتمع التركي بثقافته العثمانية ومن أهدافه البعيدة استعادة المجد العثماني الذي ضاع في فترة من الفترات،فقد أسست المدارس العثمانية وتقرر رسميا إدراج اللغة العثمانية مادة إلزامية في مناهج المدارس الشرعية ومدارس العلوم الاجتماعية، ومادة اختيارية في مناهج المدارس الثانوية الأخرى.لقد تعرض تيار العثمنة إلى حملة انتقادات واسعة وإلى سيل من الاتهامات اللاذعة من قبل “حراس العلمانية” الذين اعتبروا عودة اللغة العثمانية والمدارس العثمانية انقلابا صريحا على مبادئ الجمهورية العلمانية التي أسسها “كمال أتاتورك” وعودة بتركيا إلى مربع ومرتع الجهل الذي عانته قبل زمن الخلاص على يد “كمال أتاتورك”.إن سجال العلمانيين والعثمانيين نتج عنه صراع اجتماعي ثقافي يشتد ويخبو أحيانا مع تمسك كل بمذهبه ومع وجود كثير من عوامل الالتقاء رغم الافتراق والمتمثلة أساسا في النهج الأتاتوركي الذي يحكم المنظومة السياسية والاجتماعية والذي يدين له الكل كثابت من الثوابت غير القابلة للتغيير بما يضمن في النهاية الطابع العلماني للدولة التركية.

إن الحرف اللغوي حرف أصم ولكنه لا يخلو من مسحة أيديولوجية وإثنية فكل لغة تحمل في طياتها خصائص العنصر الذي ينتمي إليها أو الذي يتبناها واللغة التركية يصدق عليها شيئا من هذا القبيل، فقد اختار لها واضعوها الحرف اللاتيني الغربي وخلصوها من الحرف العربي تنفيذا لسياسة التتريك التي اعتبر من تولوا كبرها أن المحك الحقيقي لعلمنة الدولة يمر حتما بتغريب اللغة فالغريب في ملتهم أولى من القريب وفي كل خير. حورب الحرف العربي واستبدل بالحرف اللاتيني وقدم” المحاربون” ما يسمونه مبررا تقنيا وموضوعيا فالحرف اللاتيني في نظرهم أنسب وأقدر على احتضان اللغة التركية من الحرف العربي الذي يستوي في الضعف مع الفرد العربي والمجتمع العربي. ليت الذين يعادون حرف الضاد ويتهمونه بالضعف يدركون حقيقة أن هناك ست لغات احتضنت الأبجدية العربية فأحرف الهجاء العربية موجودة في العديد من اللغات الآسيوية والإفريقية مثل: اللغة الأردية والكردية والفارسية والسواحلية ولغة “الأخميادو”، وليتهم يدركون حقيقة أن أول أبجدية في التاريخ البشري- بحسب علماء الآثار-بشكلها المسماري قد ظهرت في سوريا في ساحل رأس شمرا أو “أوغاريت” وأن الفينيقيين هم من نقلوها إلى اليونانيين الذين عدلوها وطوروها وحوروها وحولوها إلى الأبجدية الإغريقية، التي عدلتها شعوب أخرى وأخرجتها في صورة أبجدية لاتينية، وليتهم يعلمون أيضا أن الحرف العربي باق في اللغة التركية ولو بأبجديتها اللاتينية، فهناك في القاموس اللغوي التركي مفردات عربية كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

لست من أعداء اللغة التركية فالتركية كغيرها من اللغات أداة للتواصل، ولكن هناك حقيقة لا يمكن القفز عليها وهي أن أنصار اللغة التركية الحديثة قد نجحوا في الفصل بينها وبين الحرف العربي ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في جعلها لغة عالمية وعلمية كما أردوا، فاللغة التركية لا وجود لها في تصنيف أكثر عشر لغات عالمية تأثيرا وانتشارا. هذه حقيقة لا يود كثير من المولعين بأبجدية آل لاتين، الزاهدين في لغة آل عثمان الاعتراف بها لأن ذلك سيعري صفحتهم ويكشف خيبة أملهم.

يعجبني الحريصون على تعلم اللغة التركية “فمن تعلم لغة قوم أمن شرهم”، ولكنني أشفق على كثير من المتشدقين المباهين باللغة التركية إلى الحد المبالغ فيه،غير العقلاني وغير الواقعي،و هم يعلمون أن هذه اللغة ليس لها قدم راسخة في عالم البحث والتكنولوجيا لأن أهلها بالمختصر المفيد لن يجدوا متنفسا ومتسعا لما تعلموه من قواعدها خارج العالم التركماني. من حق الأتراك أن يتشبثوا بتركيتهم، ولكن من واجبهم الديني والقومي أن يعتزوا بلغتهم العثمانية ويتصدوا لمن أهالوا التراب عليها حسدا من عند أنفسهم بعد أن كان لها من الامتداد ومظاهر القوة ما كان للإمبراطورية العثمانية في زمن عزها.

مقالات ذات صلة