-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة والشريعة: مخطط الإقصاء

عيسى جرّادي
  • 318
  • 0
المدرسة والشريعة: مخطط الإقصاء

وإن كنت أفضل استعمال مصطلح “العلوم الإسلامية” بدل كلمة “الشريعة”، لانحسار معناها في جانب من الدين يتناول الأحكام والعبادات فقط، فإن من تصدوا بداع إصلاحي لهذا الموضوع، ومن زاوية نظرهم، لم يسعهم حتى هذا المصطلح الأخير، إذ يبدو أن مصطلح “الشريعة” يثير لديهم نوعا من رد فعل تحسسي، هم في غنى عنه، فتحدثوا عما سمّوه “التربية الدينية”.
وربما ذهبوا أبعد من ذلك، باقتراح تسمية “التربية الخلقية” أو “التربية المدنية”، والدين بهذا المعنى لا يقتصر على الإسلام، بل يمكن أن يشمل أي ملة أخرى، وهذا ما سنراه لاحقا حين الإشارة إلى اقتراحات اللجنة بشأن مضمون هذه المادة في طور التعليم الثانوي، وبهذا تتحول المادة من تعبير عن خصوصية اجتماعية وثقافية تعنينا نحن الجزائريين، باعتبارنا مجتمعا مسلما، إلى مادة هُلامية تفقد هذه الخصوصية، لتسبح في عالم فضفاض من الأفكار الفلسفية والأديان.
لإنجاز مقاربة توضيحية تستند إلى مقارنة بين نصوص سابقة على ما اقترحته اللجنة، وما ورد في المشروع الأولي للجنة بخصوص مادة التربية الدينية، أشير ابتداء إلى ما ورد في أمرية 1976 التي أشادت نصوصها بـ “عمق المشاعر الدينية لدى الشعب الجزائري الذي أقام مؤسساته الثقافية، ونُظمه القضائية، وعلاقاته الاجتماعية على أساس تعاليم الإسلام، ذلك الذي أعطى للعلم صبغة مقدسة حين جعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” (1).
لتضيف “إن هذا التعليم الذي كانت مضامينه مستوحاة بشكل خاص من المبادئ الدينية، والذي كان يتميز بالطابع العملي، والتدريب على الجوانب المختلفة للحياة، قد كان يتم في جو من الحرية والاستقلال ساعد على تبادل الأفكار وانتشار الإشعاع الثقافي، كما منح المدرسة والمعلم وضعا اجتماعيا مرموقا” (1).

لإبراز مدى الشرخ الثقافي الذي يحمله البعض في تصوره للدين خاصة، أذكر كيف ردَّ أحد الحضور في إحدى جلسات اللجنة على من أشار إلى ضرورة تنزيه العقيدة الإسلامية، بقوله (العقيدة التي تقتُل!)، ولنا أن نتصور ما يمكن أن تمثّله خلفية متحاملة على الدين وفي صلبه العقيدة الإسلامية، عندما يناط بها تصميم مضمون المناهج، ومن بينها منهاج التربية الإسلامية، إذا قبلنا هذه التسمية.

تبدو الفكرة واضحة، فقضية الهوية الوطنية تقع في بؤرة الاهتمام، إذ لا يمكن تصوُّر مدرسة وطنية جزائرية، تنحو في اتجاه يجعلها مدرسة بلا روح، أي أقرب إلى كيان تعليمي علماني لا يختلف كثيرا عما نراه في أي بلد أوربي، وهو ما سعت إليه المجموعة المتحكمة في دواليب اللجنة.
لاحقا، وبما يمثل إرهاصات أولية في اتجاه مقاربة جديدة تعكس هذا التوجه -وإن بحدة أقل مما سنراه واضحا في أعمال اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية- نطلع على التقرير الذي أعدته اللجنة الوطنية للمناهج، وتحديدا المحور المتعلق بإدراج الأبعاد الوطنية الثلاثة التي تنصهر في مفهوم مشترك من الثقافة الوطنية الجزائرية أي العربية والإسلام والأمازيغية.. نقرأ ما قيل بشأن البعد الثاني – بالترتيب الوارد في النشرية- للهوية الوطنية “من الأهمية بمكان، وبالنظر إلى الظروف المؤلمة التي نعيشها هذه الأيام، أن تكون مقاربة هذه المادة في المرجعية واضحة تسمح بتجنُّب كل ما من شأنه أن يمس بالقيم الإسلامية السمحة، فالإسلام ثري بالمبادئ التي تتبناها الحضارة الإنسانية بكل معتقداتها: ثقافة التسامح والمودة والاستقامة والتعايش السلمي وتقديس الجهد والعمل وطلب العلم وما إلى ذلك” (3).
وإلى هنا لا تزال مسحة الهوية الوطنية بارزة، ليضاف إليها “البعد الأمازيغي” المستحدث والذي لم يرد في أمرية 1976، إذ لا أحد يجرؤ على القول إن هويتنا الوطنية يمكن أن تتأسس على أكثر من هذه الأبعاد.
إذا تناولنا أعمال اللجنة، ولإبراز مدى الشرخ الثقافي الذي يحمله البعض في تصوره للدين خاصة، أذكر كيف ردَّ أحد الحضور في إحدى جلسات اللجنة على من أشار إلى ضرورة تنزيه العقيدة الإسلامية، بقوله (العقيدة التي تقتُل!)، ولنا أن نتصور ما يمكن أن تمثّله خلفية متحاملة على الدين وفي صلبه العقيدة الإسلامية، عندما يناط بها تصميم مضمون المناهج، ومن بينها منهاج التربية الإسلامية، إذا قبلنا هذه التسمية.
حينها، سنرى أي شيء يمكن نعته بالإسلام إلا الإسلام نفسه، مما ستُحقن به أذهان التلاميذ في مختلف أطوار التعليم، ولعل بعضا من هذا الرذاذ قد أصاب المدرسة الجزائرية فعلا، ولكن ليس بالحجم والحدة التي كان يصبو إليها دعاة تغريب المدرسة بعنوان التفتح والعصرنة.
في سياق النقاش الذي كان يطبع أعمال اللجنة، وردود الأفعال المسجلة يومها، وفي خضمّ تداعيات المأساة الوطنية التي سعى التيار التغريبي في تفسيرها من منطلق ديني وليس من خلفية حزبية– سياسية، كانت المدرسة عرضة لمحاولة تجريدها من مقوميْها الأساسيين وهما الدين واللغة، لذا استشرت الاتهامات التي طالت مادة الشريعة، ولو بكيفية غير مباشرة، مع الدعوة إلى إلغاء شعبة الشريعة وتحجيم توقيتها بحيث لا يتوافق عمليا مع حجم المنهاج المخصص لها.
سنرى لاحقا ماهية التشخيص “المخبري” الذي كان منبتا عن الواقع، والذي رسم صورة قاتمة للمادة، باعتبارها خطرا على ذهنية الطفل الذي نحدثه عن عذاب القبر، وقطع يد السارق!
ومن هذه الزاوية، أعتقد أن الهدف كان محددا ابتداء، وكان يقتضي تحقيقه العمل على:
أولا: إلغاء شعبة العلوم الإسلامية، لإقصائها عن مركز اهتمام التلميذ والمجتمع، فتغييبها يعني الحكم عليها بالانقراض تربويا.
ثانيا: تقليص الحجم الساعي المخصص للمادة، لتقليل احتكاك التلميذ بها أسبوعيا.
ثالثا: التصرُّف في مضمون المادة، بتكييف منهاجها مع الهدف المتوخى من تدريسها، مادة هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى الدين.
فما الذي جرى تتويجا لأعمال اللجنة؟ وهل أفلحت الدعوات المتكررة لهذا التيار في فرض تصوره بخصوص العلوم الإسلامية؟

هوامش
1، 2- مطبوعة النصوص الأساسية الخاصة بقطاع التربية –وزارة التربية الوطنية – فيفري 1992 ص 7.
3- نشرية وزارة التربية الوطنية: نافذة على التربية. أكتوبر 1998.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!