-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اللغة العربية: رابط علمي ونضالي!

اللغة العربية: رابط علمي ونضالي!

للأساتذة الفرنسي إتيان جيس Etienne Ghys (68 سنة)، الأمين الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية سمات كثيرة: فبالموازاة مع نشر الأبحاث الأكاديمية في مجال اختصاصه، يكتب على الدوام في باب نشر الثقافة العلمية، سيما تلك المرتبطة بالرياضيات. وهذا ما جعله يحصد العديد من الجوائز العالمية. وما يميّزه أيضا أن كتاباته يضعها بالمجان في موقعه الإلكتروني أو في موقع المؤسسة التي ينتسب إليها حتى ينهل منها المتعطشون إلى هذا النوع من الثقافة. ولتعميم الفائدة يعمل هذا العالم على ترجمتها إلى أكبر عدد من اللغات الأخرى.

نزهة فريدة

وفي المدة الأخيرة، ألّف إتيان جيس كتابا باللغة الإنكليزية بعنوان “نزهة رياضياتية فريدة” (A singular mathematical promenade) يقع في أزيد من 300 صفحة. وقد رحّب الأستاذ المتقاعد حمزة خليف (74 سنة) متطوّعا بترجمته إلى العربية علما أن الكتاب تُرجم لحد الآن إلى 4 لغات (التركية، الروسية، البرتغالية، العربية). ويجد المتصفّح نسخة كل ترجمة إلى جانب النسخة الإنكليزية الأصلية للكتاب متوفرة بالمجان في الموقع الإلكتروني للمؤلف. ولا شك أن الكتاب سيظهر بلغات أخرى لاحقا.

وحمزة خليف تخرّج من جامعة باب الزوار في منتصف السبعينيات. ومن ذلك الحين، صار يمارس مهنة تدريس الرياضيات لتلاميذ المرحلة الثانوية حتى تقاعد عام 2008. وبعدها، انكبّ على الكتابة في مواضيع رياضياتية مختلفة (كتب، مطبوعات، مقالات، ترجمات) باللغتين العربية والفرنسية دون كلل ولا ملل. ويمكن إدراج جلّ كتاباته ضمن الثقافة العلمية لشريحة معينة.

لم تكن ترجمة كتاب “نزهة رياضياتية فريدة” إلى العربية أمرا هيّنا لأن الكتاب كان مليئا بمصطلحات علمية حديثة كثير منها غير موجود باللغة العربية أو موجود وغير موحّد في البلاد العربية… وهو ما عقّد كثيرا مهمة المترجم وراح يجتهد فيصيب كثيرا ويخطئ قليلا!

وما علاقة هذا الموضوع بالأستاذ الأمريكي عساف الكفوري ذي الأصول اللبنانية؟ تحصل عساف الكفوري (75 سنة) على شهادة الدكتوراه عام 1969 من أبرز مؤسسة جامعية في المجال التكنولوجي، وهي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) الذي تأسس في الولايات المتحدة عام 1861. وتخصص الكفوري في المعلوماتية والرياضيات وصار أستاذا في جامعة بوسطن الأمريكية. وقد عُرف الكفوري، فضلا عن سعة علمه، بالترجمة ونضاله السياسي إلى جانب أستاذ اللسانيات الأمريكي الشهير نعوم تشومِسْكِي Noam Chomsky (94 سنة) من أجل نصرة القضية الفلسطينية.

لم تكن للأستاذ حمزة خليف أي صلة بالباحث والمناضل عساف الكفوري، ولذا تفاجأ منذ بضعة أيام عندما وصلته برقية إلكترونية من الكفوري بعد أن اطلع هذا الأخير على الترجمة العربية لكتاب إتيان جيس السابق الذكر. ومما جاء في هذه البرقية : “قبل أسابيع قليلة انتهيت من قراءة ما يقرب من نصف ترجمتك لكتاب إتيان جيس. لقد وجدت الكتاب الأصلي باللغة الإنكليزية وترجمتك العربية له ممتازين حقًا. شكرًا جزيلاً على جهودك”.

ويضيف عساف الكفوري في برقيته : “أشكرك لأن ترجمتك ساعدتني بشكل كبير في كتابة نص محاضرة ألقيتها اليوم عبر تقنية “الزوم” للطلبة الفلسطينيين… لقد ألقيت المحاضرة من مكتبي في بوسطن، وكان هؤلاء الطلبة يتابعونها من مواقع مختلفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.

ويختم الكفوري برقيته بالقول : “على الرغم من أن موضوع محاضرتي هو ‘تأثيرات العلوم الحاسوبية على الممارسات الرياضياتية الحديثة’ يختلف عن موضوع كتاب إتيان جيس، فإن بينهما تداخلًا كبيرًا في المصطلحات الرياضياتية. نلاحظ أن هذه المصطلحات مستقرة ومقبولة عالميًا في اللغة الإنكليزية، بينما هذا ليس عموماً هو الحال في اللغة العربية كما لا شك تعلمون. لقد اتبعت اختياراتك للمصطلحات العربية في تسمية المفاهيم الرياضياتية، وهذا ما سهّل مهمتي إلى حد كبير!

نضال متعدّد الأشكال

 ما يهمنا في هذا السياق هو خصال هؤلاء العلماء الثلاثة :

إتيان جيس يقدم خدمة متواصلة للثقافة العلمية، فهو يؤلف الكتب القيمة التي يقضي فيها أياما وأسابيع وشهورا، ينضدها ويخرجها إخراجا أنيقا ويضعها للمتصفح في موقعه ليستفيد منها حيثما كان، ولا يطلب منه أي مقابل في حين أنه يستطيع إصدارها عبر دور النشر الغربية ويكسب منها مالا حلالا.

أما حمزة خليف، الذي يتقاضى الأجر الزهيد الخاص بالمتقاعدين في سلك التعليم الثانوي الجزائري، فقد تعفّف ووهب كل وقته منذ سنين لنشر الثقافة العلمية، والقيام بعمل مرهق سيما عبر الترجمة إلى العربية سائرا على خطى إتيان جيس. وما كان ذلك ليتأتى لولا سعة علمه وتفانيه فيما يهواه. ففي تصدير لأحد مؤلفات حمزة خليف، قال فيه عضو أكاديمية العلوم الفرنسية إتيان جيس :”قبل عشر سنوات، كتبتُ تصديرا لمعجم ‘حديقة المنحنيات’ [لصاحبه حمزة خليف].

والآن، أنا أمام معجم ‘حديقة السطوح’. أَلْفَا (2000) صفحة من الإبحار العلمي، وعشر سنوات من الكدّ! فهل سيكون حمزة خليف راهبا بنديكتيا؟ إن المعجم الذي بين أيديكم منجم من المعلومات. إنه ملخص لأكثر من ألفيْ عام من الرياضيات، وكأنه دعوة للسفر في عالم الهندسة حيث كل شيء فيه نظام وجمال وازدهار وهدوء ومتعة، وفقط”. ويختم إتيان جيس تصديره بالقول: “يبقى لي أن أشكر حمزة خليف، العاشق الهائم في الهندسة، لإنجازه هذا العمل الذي سيسمح بمائة ألف مليار رحلة في عالم السطوح”!

وفي مقدمة الطبعة العربية لكتاب “نزهة رياضياتية فريدة” التي كتبها إتيان جيس بعد ترجمة حمزة خليف، جاء في نهاية المقدمة : “الرياضيات مُدانة كثيرًا للغة العربية، لأنها كانت أداة لنقل التراث الذي تركه اليونانيون… لذلك، بكل فخر وامتنان أودّ أن أشكر حمزة خليف الذي صنع هذا الإبداع الجديد! إنه ليس مبتدئًا حيث سبق له أن ترجم فيلميْ ‘أبعاد’ و’الشوّاش’ إلى اللغة العربية. لقد كانت ترجمة هذه ‘النزهة’ إلى العربية صعبة بشكل خاص لأنه ربما هناك العديد من الكلمات التقنية في الرياضيات التي ليس لها ما يقابلها في اللغة العربية”. ثمّ يضيف : “حب حمزة للرياضيات نقي وصادق كما تُظهِر كتبه عن المنحنيات والسطوح. شكرا حمزة”.

وأما عاسف الكفوري فحدّث ولا حرج: إنه عالم ومناضل صادق من أجل القضية الفلسطينية، يبلّغ رسالته العلمية وينقل معارفه الأكاديمية مستعملا اللغة العربية من الولايات المتحدة إلى أبناء الأرض المحتلة. وبذلك يبدو ثلاثتهم كأنهم مرتبطين برابط نضالي قوي، كل من موقعه ووفق ما تمليه قناعته. فتحية لهم جميعا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!