-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اللغة الفرنسية لم تعُد “غنيمة”!

اللغة الفرنسية لم تعُد “غنيمة”!

روى برنار باجولي، المدير السابق للمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي وسفير بلاده في الجزائر (سابقا) مشهدًا وصفه بأنه “لا يُصدَّق”. كان ذلك في 3 ديسمبر 2007، حين كان هذا السفير يتناول العشاء مع الرئيسين الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة والفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارة هذا الأخير للجزائر. يقول السفير إن المرحوم بوتفليقة عاود الحديث خلال المأدبة عن عبارته الشهيرة “الإبادة الجماعية الثقافية” التي استخدمها قبل عام من ذلك الوقت لوصف الاستعمار الفرنسي، ثم خاطب الحاضرين بتأثر كبير قائلا: “لقد سلبْتم منا كل شيء، واستحوذتم على ثقافتنا، وسرقتم هويتنا، فلم نعد نعرف من نحن، أعرب نحن، أم أوروبيون…؟!”. يذكر السفير أن هذه العبارات صدمت الرئيس ساركوزي لأنها كانت غير متوقعة، ويضيف أنها جعلت ساركوزي يضطرّ إلى إدخال تعديلات على مضمون الخطاب الذي كان ينوي إلقاءه بجامعة قسنطينة.

“اللغة أداة تغيير العالم وإعادة بنائه”
كلامُ الرئيس الراحل ليس خاليا من الإشارة إلى الجانب اللغوي بل كانت في صلب مقولته. وهنا نتذكر عالم اللسانيات الألماني فيلهلم فون همبولت Humboldt (1767-1835)، الذي كان أيضا دبلوماسيا وفيلسوفا ومن مؤسسي جامعة برلين عام 1809، وهو رائد من رواد علوم التربية، نهلت من أفكاره أنظمةٌ تربوية كثيرة في العالم، ومنها النظام التربوي في النمسا والولايات المتحدة واليابان. ولهذا العالم مقولة شهيرة تنص على أن “اللغة أداة تغيير العالم وإعادة بنائه”. وهذا ما يدركه الكثير من الساسة في الغرب والشرق، وليس فقط علماء اللسانيات.
أما الخبير اللسانياتي الفرنسي بيير فرات Frath فحلّل قبل خمس سنوات ضمن استجواب لجريدة “لوفيغارو” ظاهرة “خضوع اللغة الفرنسية إلى الإنكليزية” التي تفشّت في نظره و”تقدّمت دون أن تعي بها المؤسساتُ الأوروبية ولا السياسيون ولا البحث العلمي ولا الجامعة”. ويرى الباحث أن هذه اللغة قد زحفت في مجالات كانت قبل الآن مجالات تحتلها اللغة الفرنسية،لاسيما في ما يتعلق بالميدان العلمي. ويضيف أنه سوف “لن يكون بإمكان الفرنسيين الحديثُ عن معارفهم العلمية بلغتهم”.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن اللغة الفرنسية عند الجزائريين كانت نسبيا “غنيمة”، إذ إن من إيجابياتها أنها كانت قبل القرن الحادي والعشرين تمثل -بحكم مكانتها في العالم- نافذة واسعة يطل من خلالها الكثير منا عما يجري في العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها. ولذا كان من المناسب تعلّمها وتلقينها بعد اللغة الوطنية لأبنائنا في مؤسساتنا التعليمية لتكون لهم أداة قوية يواجهون بها مستقبلهم. أما سلبياتُها فقد عبَّر عنها الراحل بوتفليقة في مقولته أعلاه.
وأما الآن، فإن تلك النافذة صارت ضيّقة بل تكاد تنغلق ولا نرى من خلالها إلا القليل مما كان يفيدنا، وأصبحنا في وضع يحتم علينا فتح نافذة أخرى نطلّ منها على العالم بشكل أفضل. كيف لا، وفي مجال البحث العلمي، لاسيما في العلوم الأساسية، أصبح منذ عديد السنوات لا ينشر أساتذتنا وطلبة الدراسات العليا عندنا أبحاثهم إلا باللغة الإنكليزية؟ وهم مضطرّون لذلك شأنهم شأن جميع الباحثين في جامعات كل بلدان العالم بما فيها فرنسا! ومع ذلك، نجد في جامعاتنا هذا الطالب يتلقى دروسه العلمية بالفرنسية دون غيرها!

أرقامٌ مثيرة
عندما نتفحّص موقع اللغتين الفرنسية والإنكليزية في التعليم العالي في فرنسا حسب ما تعرضه الهيئة الحكومية الفرنسية “كمبيس فرانس” Campus France على الطلبة الأجانب الذين يرغبون في مواصلة دراستهم بفرنسا، نندهش من السياسة اللغوية في الجامعة الجزائرية، خاصة بعد الليسانس. إليك عيّنة من الأرقام التي تقدّمها هذه الهيئة في موقعها الإلكتروني لهؤلاء الطلبة:
يوجد في فرنسا 1669 برنامجا دراسيا في المؤسسات الجامعية، منها 1375 برنامجا يُقدَّم كاملا باللغة الإنكليزية و294 برنامجا هجينا (أي باللغتين الفرنسية والإنكليزية): ففي الرياضيات هناك 121 برنامجا دراسيا، منها 97 بالإنكليزية و24 برنامجا هجينا. وفي الحقوق والاقتصاد، هناك 202 برنامج بالإنكليزية و51 برنامجا هجينا. وفي الهندسة والتكنولوجيا، ثمة 542 برنامجا بالإنكليزية و100 برنامج هجين. أما في البيئة والصحة، فهناك 488 برنامجا دراسيا، منها 391 بالإنكليزية و97 برنامجا هجينا، وفي الأعمال والتسيير ثمة 664 برنامجا دراسيا، منها 590 بالإنكليزية و74 برنامجا هجينا…
أليس هذا كافيا لنُثبت أن الجامعة الجزائرية “مَلكية أكثر من الملك” في مجال تدريس العلوم باللغة الفرنسية؟ ألسنا ندرس كل مقرِّراتنا باللغة الفرنسية خلافا لما هو معمولٌ به في فرنسا الأم؟
وقد يتساءل القارئ ما الذي أدى باللغة الفرنسية إلى هذا الوضع الذي لا تُحسد عليه؟ يقول الخبير بيير فرات السابق الذكر: ما نلاحظه في الوقت الراهن أن أصحاب القرار يميلون في كثير من البلدان إلى تعويض لغاتهم باللغة الإنكليزية، منها فرنسا. وعندما ننظر إلى الإمبراطورية الفرنسية، أي فرنسا الأم ومن كان في فلكها، مثل معظم مستعمراتها القديمة في إفريقيا والبلدان المنضوية تحت راية الفرنكوفونية، نلاحظ أن هناك في هذه البلدان المزيد من الانسلاخ السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي عن الأم التي ضعفت سطوتها.
والقاعدة التي تخضع إليها هذه العملية تقول، حسب هذا الخبير: “إذا كان الآخرون يسيطرون عليك، فذلك لأنّ ثقافتك ولغتك دون المستوى، أو لأن الغير يريدون جعلك تقتنع بذلك”. ويخلُص إلى القول إنه عندما تكون اللغة في مركز إمبراطوريتها فإن الناس يلتفّون حول محيطها وينهلون منها قدر المستطاع، أما إن فقدت مركز عرشها فستنتقل هذه اللغة إلى محيط إمبراطورية أخرى لتأخذ من لغتها المركزية. وذلك ما حدث للغة الفرنسية إذ “كانت في مركز إمبراطوريتها بدءا من القرن السادس عشر” والتفّت مستعمراتُها من حولها حتى القرن العشرين ثم ضعُف قومُها واقتصادهم وفقدت اللغة مركزها وصارت “تسبح في فلك إمبراطورية لغة الولايات المتحدة”.
فأي “غنيمة” هذه التي تجعلنا اليوم في الجزائر نواصل السباحة في بحر الإمبراطورية الفرنسية ولغتها؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!