-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الاختناقات بالغاز تفتح سجل الوفيات لموسم جديد

المدافئ تنافس المدافع والمدخنة تتحول إلى آلة لإبادة العائلات

سمير مخربش
  • 422
  • 0
المدافئ تنافس المدافع والمدخنة تتحول إلى آلة لإبادة العائلات
أرشيف

انطلق موسم الاختناقات بالغاز، وبدأ العدّاد يحصي الضحايا الذين قضوا نحبهم، بسبب قصبة تحوّلت إلى مأسورة مدفع، تقتل الناس دون أن تسمع لهم ركزا. وفي كل عام تتكرر الكارثة التي تفجع العائلات، في مشهد مأساوي سببه غياب حركة بسيطة تتعلق بتركيب تلك القصبة الملعونة.

هو نوع آخر من الإبادة الجماعية التي تعيد الأرواح إلى بارئها، وتنافس اليوم مخلفات الكوارث الطبيعية وإرهاب الطرقات في عدد القتلى والضحايا، الذين سمعنا وسنسمع عنهم طيلة فصل البرودة. فكل موجة برد ترافقها موجة من حبس الأنفاس والجثث المختنقة في غياهب الظلام وأحيانا في وضح النهار. والحكاية تبدأ عند إشعال المدفأة دون تفقد أجزائها ولواحقها ودون مراقبة لمسار غاز أحادي الكربون، الذي اشتهر بانعدام ثلاثية الطعم والرائحة واللون، يضاف إليها انعدام الرحمة عند بلوغ الصدور.
وتم تسجيل حوادث مأساوية رسخها هذا الغاز في الأذهان، نذكر منها ما حدث مطلع السنة الجارية، وبالضبط بتاريخ 9 جانفي 2023 أين أباد الغاز أسرة كاملة مكونة من 6 أفراد، وكان ذلك بحي شرشورة ببلدية عين ولمان بجنوب ولاية سطيف، وهي أكبر حصيلة عائلية سجلت هذا العام بعاصمة الهضاب، وقد فارق الضحايا الستة الحياة دون أن يشعر بهم أحد، لتكتشف جثثهم داخل المنزل بعد مرور 3 أيام.
واضطر أعوان الحماية المدنية إلى كسر الباب والصعود إلى الطابق العلوي، أين كانت الجثث ملقاة في منظر مفزع، حيث عثر رجال الحماية المدنية على 6 جثث كاملة موزعة على غرف المنزل. ويتعلق الأمر بكل من الأب سراي عبد المجيد، البالغ من العمر 60 سنة، والأم بن نعيجة نورة، البالغة من العمر 55 سنة، والابن هشام، 33 سنة، والابن الثاني يونس البالغ من العمر 26 سنة، والبنت سلسبيل، البالغة من العمر 15 سنة، وسندس البالغة من العمر 22 سنة، فارقوا الحياة جميعا دون أن يعلم أحد من توفي قبل الآخر.
وحسب النقيب أحمد لعمامرة، رئيس خلية الاتصال بمديرية الحماية المدنية لولاية سطيف، فإن ذلك الحادث المأساوي الذي يعد أكبر حوادث الغاز من حيث عدد الضحايا، وسببه استنشاق غاز أحادي الكربون المنبعث من قصبة المدفأة الثانية التي كانت متواجدة في بهو المنزل، والتي كان بها انسداد واضح غيّر مسار الغاز المحروق الذي تسرب إلى باقي الغرف.
وقد تزامن الحادث مع وفاة 9 أفراد من عائلة واحدة ببوسعادة بولاية المسيلة المجاورة، والذين فارقوا الحياة في نفس الظروف، لتكون ولاية المسيلة قد سجلت أكبر حصيلة عائلية على المستوى الوطني في حوادث الاختناق بالغاز.
وقبل الحادثتين، شهدت ولاية سطيف كذلك ثاني أكبر حصيلة بعدما هزت الفاجعة منطقة معفر ببلدية صالح باي، وخلّفت حيرة وسط عائلة فقدت 6 أفراد جملة واحدة، ويتعلق الأمر بالأب وزوجته وابنتيه وحفيدتيه، والذين فارقوا الحياة بسبب الغاز المنبعث من المدفأة وكادت الحصيلة أن تكون أكثر لولا تمكّن أفراد العائلة من إنقاذ حفيدين آخرين.
وحسب أحد أفراد العائلة، فإن البيت كان فيه الوالد رفقة زوجته واثنتين من بناته اللتين جاءتا لزيارته، وعند عودة الابن الأكبر، لاحظ غياب الأطفال الذين اعتادوا اللعب أمام المنزل، وبعدما طرق الباب لم يرد عليه أحد، فظن أن أفراد العائلة قد ذهبوا في زيارة لأحد الأقارب، لكن لما طلب والده في الهاتف سمع الهاتف يرن داخل المنزل، فانتابه الشك ثم توجه مباشرة إلى النافذة الخلفية، أين قام بكسر الزجاج وتمكّن من الدخول إلى المنزل وحينها اكتشف الفاجعة، فوجد والده البالغ من العمر 58 سنة ميتا في غرفة الاستقبال، ثم توجه إلى الغرفة المجاورة، فوجد والدته البالغة من العمر 56 سنة قد فارقت الحياة رفقة أختيه البالغتين من العمر 38 و26 سنة، وبجنبيهما جثتي طفلتيهما البالغتين من العمر عام ونصف وسبع سنوات.
فالرجل وجد ستة جثث كاملة داخل المنزل ثم انتبه لابن أخته الكبرى وابن أخته الصغرى اللذين لازالا على قيد الحياة، فاتضح أنهما مصابين بدوار، فهرع إلى إنقاذهما وأخرجهما من المنزل ليتم نقلهما إلى مستشفى عين ولمان. وعند تدخل رجال الحماية المدنية، قاموا بنقل الجثث الستة إلى المستشفى، وتبين من خلال التحريات أن هناك فراغ بين القصبة والمدفأة ما سمح بتسرب غاز أحادي الكاربون، الذي فتك بستة أفراد جملة واحدة.

الموت في ليلة العمر
وقد تحولت حوادث الاختناق بغاز الكاربون إلى مأساة تهدّد خاصة حياة العرسان الجدد، بعد تسجيل عدة حالات ذهب ضحيتها عائلات جديدة فارقت الحياة بمجرد أن نزلت بمساكنها الجديدة، ليتحول بذلك الموقد إلى آلة لقتل العرسان الذين لم يتمتعوا بحياتهم الزوجية، فذهبوا في صمت وخلفوا وراءهم مآس حقيقية حدثت في السابق وتكررت، ويبدو أنها لن تتوقف مادام الخلل يلاحق أجهزة التدفئة ولواحقها. وسجلت ولاية سطيف وحدها عدة حوادث من هذا النوع، منها وفاة عريسين ببلدية عين آرنات بغرب ولاية سطيف، ويتعلق الأمر بالعريس (ت. س) 36 سنة والعروس (ل. م) 28 سنة، فارقا الحياة معا بعد أيام من حفل زفافهما، وكان ذلك في أول ليلة يقضيانها في الشقة الجديدة. فبينما كان العريسان يتصفحان ألبوم صور حفل الزفاف، ويسترجعان أطوار العرس وسط جو من الفرحة والسعادة، كان غاز الكربون يتسلل ببطء ليحتل فضاء الشقة ومع ازدياد نسبته في الهواء، اختنقت العروس ففارقت الحياة وألبوم الصور في حجرها. بينما العريس يبدو أنه قام من مكانه وحاول المشي في الغرفة لكنه سقط على المرآة التي انكسرت من حوله.
وبعد تدخل الجيران واستدعاء رجال الحماية المدنية والشرطة، تم العثور على جثتي العروسين اللذين مر على وفاتهما قرابة اليومين، وتبين أن الوفاة سببها غاز أحادي الكربون المتسلل من المدفئة التي تم تركيبها حديثا.
وفي حادثة أخرى سابقة، لقي عريس يعمل صيدليا حتفه رفقة عروسه داخل شقة بحي 248 مسكن بسطيف، في نفس الظروف، ولم يتمكّن رجال الحماية المدنية من إخراج الضحيتين إلا بصعوبة كبيرة نظرا للانتفاخ وبلوغهما درجة عالية من التعفن. وتبين أن الوفاة حدثت منذ ثلاثة أيام دون أن يكتشفها أحد، وأما الأسباب، فهي مرتبطة بالغاز المنبعث من المدفأة، واتضح أن الصيدلي لم يمكث رفقة عروسه في تلك الشقة إلا ليلة واحدة، وهي ليلة الدخلة التي لم تكتمل، وفارق الاثنان الحياة قبل طلوع الفجر.
والملاحظ أن حوادث اختناق العرسان الجدد بالغاز أضحت ظاهرة قابلة للتكرار في بلادنا، فبمجرد أن يستقر العرسان في منزل جديد، فإن “حية” الغاز تتسلل من الموقد والمدخنة لتعلن نهاية حياة زوجية بدأت منذ ليلة واحدة.

حوادث ستتكرر في المستقبل
حسب الملازم كريم بن فحصي، المكلف بالإعلام بالمديرية العامة للحماية المدنية، فإن العائلات الجزائرية تستغني عن الموقد مع بداية الصيف، والذي يبقى خارج الخدمة لمدة حوالي أربعة أشهر، ليعود إلى النشاط مع بداية موسم البرد، وهو الاستئناف الذي يتطلب صيانة ومراقبة المدفأة وسخان الماء وأنابيب تسريح الدخان التي يمكن أن تكون عرضة للانسداد لأسباب عدة، منها أعشاش الطيور أو أشياء أخرى، الأمر الذي يتطلب أخذ الحيطة والحذر وتقدير هذا الخطر، الذي تظهر فظاعته من خلال الأرقام المسجلة سابقا.
ففي الشتاء الأخير، يقول الملازم، أحصت المديرية العامة للحماية المدنية 2532 شخص تم إنقاذهم من الاختناق بأحادي غاز الكربون في أماكن مغلقة سواء داخل المنازل أو المستودعات، وهو الغاز الذي لا يمكن التفطن له ولا الإحساس به، وتكفيه 7 دقائق لإحداث الاختناق في مكان مغلق. وقد تسبّب، يقول الملازم، في الشتاء الماضي في وفاة 136 شخص، وهناك عائلات أغلق دفترها العائلي جراء تصرفات لا مسؤولة.
ونظرا لخطورة الوضع، أطلقت المديرية العامة للحماية المدنية، يقول بن حفصي، حملة وطنية، توعوية للتحسيس بأخطار غاز أحادي الكربون، انطلقت منذ 29 أكتوبر2023 وستستمر إلى غاية 31 مارس 2024، والتي تهدف إلى غرس الوعي الوقائي الذي يحمي العائلات من هذا الخطر، وتمس الحملة المؤسسات التربوية والمساجد بالإضافة إلى زيارات ميدانية للبيوت بالاشتراك مع شركة “سونلغاز” ومصالح التجارة.

وراء كل مدخنة مسدودة شهادة وفاة تنتظر الإمضاء
ستبقى مثل هذه الحوادث، على مرارتها، تسجل حضورها في كل مرة، مادام هناك شيء اسمه تهاون وسوء تدبير لأهل البيت، الذين لا يتفقدون تركيبة التدفئة، ويسارعون إلى فتح الغاز دون مراقبة ولا تقدير لخطر المدخنة التي تحولت إلى سلاح فتّاك يقتل الجزائريين في بيوتهم. كما أن هناك أجهزة تدفئة مغشوشة تسجل حضورها في المنازل بلا رقابة. وحسب أعوان التجارة الذين تحدثنا إليهم، فإن المنتجات غير المطابقة لمعايير السلامة لم يعد لها وجود في المحلات القانونية، لأن صاحبها مطالب بتقديم شهادة تثبت سلامتها ومطابقتها للمعايير المعمول بها. ومصالح التجارة تسهر على مراقبة كل هذه الأجهزة، والتأكّد من صلاحيتها. وفي حال أي غش، يتم تطبيق القانون بصرامة مع العلم أن هناك من يغامر بشراء أجهزة مستعملة وهي ميزة لا تنطبق على المدفأة لأنها جهاز حسّاس قد يقتل الناس.
وحسب محمد صحراوي، وهو سباك من سطيف، فإن الإشكال لم يعد في المدفأة في حد ذاتها، لأن درجة الوعي ارتفعت، والكثير من العائلات أصبحت تتجنّب الأجهزة القديمة وغير الصالحة، في حين تبقى الكارثة تحوم حول الأنابيب والمدخنة وقصبة الدخان التي لا يعير لها البعض الاهتمام الكافي، وتكون وراء كارثة حقيقية. ولذلك، ينصح محدثنا بالاعتماد على مختصين في تركيب المدفأة ولواحقها.
ورغم الحملات التحسيسية التي تقوم بها مصالح الحماية المدنية وشركة “سونلغاز”، تبقى ظاهرة الاختناق بالغاز تفتك بالعائلات الجزائرية، ووراء كل جهاز مغشوش ومدخنة مسدودة قنبلة جاهزة لمسح عائلة بكاملها من السجل المدني للأحياء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!