-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة الجزائرية ضحية الخراب!

المدرسة الجزائرية ضحية الخراب!

لم تنفع الحملة التحسيسية المسبقة ولا مناشدات الطواقم التربوية للمؤسسات التعليمية في ثني تلامذتها عن تكرار السلوك المشين، مع نهاية كل موسم دراسي، بتمزيق الكراريس ورميها في الشوارع العامة، ليتحول التصرف السيء إلى ظاهرة غريبة تستوجب الدراسة العلمية والنقاش المختص، للنظر في خلفياتها العميقة وآثارها النفسيّة مستقبلا على المتعلمين وقيمة التعلم في ثقافة الأجيال الناشئة.

اللافت في الأمر أنّ القضية تجاوزت ببعض المناطق تشويه المحيط العام وامتهان رمزية الكرّاس، بصفته حاملا للمعرفة والنص المقدس، ناهيك عن لغة القرآن، إلى إحداث الفوضى وتخريب المدارس وتكسير الطاولات وضرب الأساتذة بالحجارة، في سلوكيات ذات دلالات خطيرة، لا يمكن تبريرُها بعفوية الأطفال أو عدم تقديرهم لما أقدموا عليه.

اجتهد مؤخرا مختصُّون في علوم النفس والتربية والاجتماع لتفسير هذه الظاهرة القبيحة، والتي لم تكن مألوفة بهذا الانتشار الاستعراضي في المجتمع المدرسي، معتبرين ذلك شكلا من التنفيس عن دواخلهم من كبت رهيب أحدثته المناهج الدراسية الجديدة في الجزائر، حيث يسعون بمثل تلك الممارسات للتخلص من عبء الدراسة وضغط الامتحانات والمعلم والعائلة.

بل يشير آخرون إلى مسؤولية الأولياء، من خلال تركيزهم على الدروس الخصوصية لأبنائهم، ما جعل هؤلاء لا يقيمون وزنا للتعليم العامّ، إذ يحتفظون بكراس الدعم أو أي مواضيع أخرى، دون التورّع عن تمزيق كراريس المدرسة العمومية، وفي حال صحّت مثل هذه التفسيرات، فإننا فعلًا أمام وضع مختلّ وخطير بكل المقاييس.

إنّ ما تعيشه المدرسة الجزائريّة من تناقض قيمي صارخ، بين نزعة مفترضة نحو حبّ التعلّم ونفور واقعي منه، يستوجب المراجعة العاجلة للمنظومة التربوية، إذ من غير المعقول أن تصل الاصلاحات المزعومة بأبنائنا إلى حد الشعور القاهر بالسجن في المدارس طيلة الموسم، لتصبح نهاية الامتحانات فرصة للتنفيس بطريقة خاطئة تحمل الكثير من الإساءة إلى قيم التعلّم.

صحيحٌ أن الضغط الذي يواجه تلاميذنا متعدد المصادر، وقد يكون أقواه ذلك الذي تمارسه العائلة بتفكير سطحي، يختزل التحصيل البيداغوجي للطفل في العلامة النهائيّة المحصّلة، بغضِّ النظر عن قيمة ما يتلقّاه أصلا، أو مستوى الاستيعاب الفعلي والتأثير التعليمي في بناء شخصيته الثقافيّة والاجتماعية.

كما أنّ أبناءنا يعانون من تقصير واضح في الأداء التربوي للمكونين بذرائع كثيرة، لعلّ أهمَّها الوضع الاجتماعي لهم وما يترتّب عنه من ضعف في الاستعداد والبذل، بل الأسوأ توجيه التلاميذ مسبقا للالتحاق بمستودعات الدروس الخصوصيّة التي يؤطرها نفس المكوّن الموظف لدى الدولة، لكنه لا يبلّغ رسالته التعليمية على أحسن وجه إلا بمقابل خارج المدرسة، بحجة أنّ ظروف الاكتظاظ في الأقسام وضيق الحيّز الزمني لا يسمحان بذلك، مع حفظ الاستثناءات الشاذّة من المخلصين في مهامهم البيداغوجيّة.

وأغرْب ما طالعتنا به الصحافة مؤخرا تهديد الوصاية للأساتذة المتغيبين عن حراسة الامتحانات النهائية بطوري الإكمالي والثانوي، بينما لا يستحي بعضهم من تبرير موقفهم بالمنحة الزهيدة للحراسة، لذلك لا نستغرب بعد ذلك إذا شاع الغش وسط التلاميذ في وجود أمثال هؤلاء المتجردين من قيم التعليم والعمل على السواء.

إن اجتماع هذه التراكمات هو ما يزهّد أبناءنا في تعليمهم ويجعلهم ينظرون إليه، مناهج ومدارس ومكونين، بعين السخط والنفور، وحتى النجباء منهم ليسوا سعداء بما حققوه، لأنه في الغالب ثمرة مرافقة مضنية لأوليائهم ودفعٍ مرهقٍ من جيوبهم المثقلة بأعباء المعيشة.

ومهما تشدّق المسؤولون بلغة الأرقام، فينبغي الاعترافُ أن مناهج المدرسة الجزائرية ليست على ما يرام، لأن العبرة بالنتائج الواقعيّة، وهي لا تحقق المرجوّ منها، بل بالعكس تماما، فقد جعلت مزاولة التعليم عند الأغلبية مستحيلة خارج الدعم الخاص، وحوّلت التلميذ إلى آلة تخزين لمقررات يطغى عليها الحشو بمعلومات عامّة وسابقة لأعمارهم ويمكن استدراكُها في أي مرحلة أخرى.

كثيرا ما سمعنا أن الإصلاحات المنتهَجة تسعى إلى بناء الفكر النقدي لدى التلميذ الجزائري، لتخليصه من المناهج التلقينية التقليدية، بالتركيز على مواد التربية العلميّة والمدنيّة مثلا، لكن النتيجة الماثلة أمامنا هي استظهار التلاميذ لمحتويات فوق قدراتهم العقليّة، ما يعني تكريس المزيد من الحفظ عوض التفكير، فمتى نعيد النظر في تلك الإصلاحات العرجاء؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!