-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة الرقمية.. آخر ألاعيب وحيل المستلَبين

المدرسة الرقمية.. آخر ألاعيب وحيل المستلَبين

المشكلة الكبرى التي كنا ومازلنا نعاني منها منذ ستة عقود 1962-2022م من التيه والتبعية، ونحمل أوزارها كجزائريين مغلوبين على أمرنا، ودون استئذان أو استشارة للمتخصصين والباحثين الحقيقيين في القطاع.. هي تبنّي الحكومة والتزامها بتعهدات أمام المؤسسات الدولية دون سابق دراسة أو حتى معرفة بالواقع الجزائري المحافظ والتقليدي واستبصار إملاءاته وإكراهاته وحقائق واقعه، من ذلك استعجالها مطلع الألفية الثالثة وبالضبط سنة 2003م بالانقلاب على منجزات وأرضية المجلس الأعلى للتربية الوطني الأصيل 1996-1998م، واستبداله بمجلس (بن زاغو) العلماني التغريبي المستلب، الذي دعا يومها -بطلب من الرئيس السابق- إلى إصلاح المنظومة التربوية وعصرنتها لتتكيف والمعطيات العولمية الجديدة، وفصل الأجيال عن بعضها وتفكيكها معرفيا ووجدانيا خدمة للأجندة الاستعمارية التغريبية.. والتخفي تحت مسميات (العصرنة، التحديث، الارتقاء..).

ومن تلك الخطوات التي خدمت بها المشروع الاستكباري التغريبي تبني مفهوم (مصطلح عصرنة التعليم) رغبة وحلما منها في الانخراط في التوجُّهات العالمية لصياغة إستراتيجية عالمية لعصرنة ورقمنة التعليم والمدرسة، وهذا أملٌ وحلم جميل تريد أن تصل إليه –ونحن معها- وهي لم تستوفِ أي شرط من شروط نجاحه كعادتها في إطلاق المشاريع والمبادرات.. ومسايرة الركب العالمي.. وهكذا ننخرط ونجد أنفسنا كشعب مقهور في تلك المشاريع والمبادرات بعشوائية وفوضى وارتجالية.. والسؤال المطروح على من ورّطنا منذ عقدين من الزمن الدعائي والتضليلي الضائع هو: هل وفرنا وأعددنا الشروط الهيكلية والبشرية اللازمة لنجاح هذه المبادرة العصرية؟ وهل نملك معلما وتلميذا وأسرة ومدرسة ومجتمعا ومستوى مدنيا وحضاريا يؤهلنا للدخول في بعث مدرسة عصرية رقمية؟

أعتقد أن الإجابة سهلة وواضحة، ولا تحتاج إلى عميق تفكير ونظر، فقد ورّط النظام التربوي –للأسف الشديد- الأمة والمدرسة والأسرة الجزائرية بمصطلحات (الرقمنة، العصرنة، سوق العمل، إعادة تكييف وتشكيل مفاهيم ووظائف جدوى المدرسة العصرية، تكييف نظام التعليم مع احتياجات سوق العمل، اقتصاد المعرفة، عولمة المعرفة، التنافس المدرسي، الانفتاح العالمي، الريادة في حقل التنمية البشرية..)، وكل مصطلح من هذه المصطلحات لتنوء بوزره العصبة المخلصة العالمة المتمكنة القوية من أولي العزم العلمي والفكري والثقافي والأدبي والمنهجي والتربوي والتعليمي لحل مجاهيله وتفكيك عُقده.. وكشف حقائقه الخفيّة والظاهرة.

على سبيل المثال والتفكه عن اللحاق بالفجوة الرقمية، أنقل لكم حادثة جرت معي مؤخرا، وملخصها أنني تقدمت لشراء تذاكر طائرة للسفر إلى إحدى الدول العربية في الشهر الماضي من الخطوط الجوية الجزائرية بباتنة مصطحبا معي (البطاقة الذهبية) لأجري المعاملة المالية بواسطتها، فما كان من الموظف إلاّ أن ضحك وقال لي ساخرا بالحرف الواحد: (هذا في التلفزيون فقط)!

وحتى نكون على بيّنة نتساءل ما هي المدرسة الرقمية؟ وما هي فلسفتها ومكوِّناتها ونماذجها؟ وما هي حقيقتها وأهدافها وغاياتها؟ وما هي فوائدها ومنافعها؟ وغيرها من الأسئلة العلمية الواجب طرحها إذا تعلق الأمر ببحث علمي، فما بالك إن تعلق بمصير وحاضر ومستقبل جيل وأمة؟ فهي حسب مبدعيها ومنظّريها، تُعرف بأنها: شكلٌ تنظيمي تعليمي يستخدم الوسائط والتكنولوجيات الإلكترونية المختلفة بهدف خلق نظام معرفي وتربوي رقمي جديد، يخالف معهود المدرسة التقليدية. وله أربعة نماذج (تكنوتعليمية) عالمية، توصّلت إليها المنظومة التعليمية في العالم المتقدم، تحدد منطلقاتها ووسائلها وطرقها وأهدافها وغاياتها النظرية والتطبيقية.. بهدف خلق تفاعل إنساني ضوئي مفتوح ومتحرر من كل القيم مع الزجاجات والوسائط عوض المقابلة الشخصية، وتخليص التلميذ والمعلم من أنساق وبقايا المدرسة التقليدية (الاحترام، الانضباط، الانتباه، النظام، المحفظة، المئزر، القلم، الكراس، الكتاب، الممحاة، المسطرة، الجملة، الكلمة..) نحو التحرُّر من كل تلك الضوابط الفطرية والأخلاقية اللازمة للحياة السوية، والتقرب ومعالجة النصوص والحقول الإلكترونية، أي دفع الأجيال الجزائرية نحو ربط الرؤوس وشد الأعناق وتسمير العيون نحو زجاجات عالم وصقيع الشتاء النووي الذي يُحضِّر له الغرابان اليهودي والصليبي.

غير أن بعض الدارسين الجزائريين المتخصصين نفى عن المدرسة الرقمية أن تكون كذلك، والحقيقة العلمية لمن يراها ويبصرها بنور الله والعلم  يتبيّن أن هذه هي محصلتها النهائية التي رسمها صانعوها الذين لا يؤتمن فيهم على أنفسهم ومجتمعاتهم المفلسة روحيا وأخلاقيا.. فضلا عن أن يؤتمنوا على أمة العرب والمسلمين، وذلك بغرض رفع الحرج عن المتحمسين لها، وبهدف التماهي مع مطالب الانخراط ضمن نسق الشروط العالمية التي مازالت تفرضها المؤسسات والمنظمات الأممية على الأنظمة التي لم تحسم أمورها إيديولوجيًّا.. دون مراعاة لمعطيات الواقع الجزائري وإكراهاته، ولضمان شيء من التسويغ اللاعقلاني للسلطة كي تحفظ ماء وجهها في الاستجابة للإملاءات الدولية، التي لا يهنأ لها بالٌ ولا يرتاح لها ضمير دون غمس سمومها في المنظومات التربوية وخلق أجيال جزائرية مترهلة تحت مسمى (العصرنة، التقدُّم، العالمية..)، وهو ما لاحظناه منذ ثلاثة عقود وبعد فضيحة الباكلورية سنة 1992م من سيول الأزمات التي عصفت ومازالت تعصف بالمنظومة التربوية الجزائرية الوطنية الأصيلة لحساب تيارات الاستلاب والأغربة والفرنسة والضياع.

ولعلني أنقل لكم فقرة نقلتها عن أحد عرّابي هذا الاتجاه الذي أراه يخالف مفهوم وتصور الجهات الوصية لمعنى ووظيفة وشكل وهدف المدرسة الرقمية أصلا، لأن السلطة -حسب خبرتي بمفكريها ومستشاريها- ترى غير هذا البتة.. إذ يقول محددا كيفيات ومراحل دمجها موازاة مع بقاء المدرسة التقليدية، وهذا طرح مقبول علميا لا واقعيا: ((..إن استخدام التكنولوجيا الرقمية في المدرسة الجزائرية لا يعني البتة استبدال معلمين بمنصة رقمية أو لوحة ذكية أو هاتف ذكي. كما أن إدخال الأدوات التعليمية الرقمية في المدارس لا يعني إلغاء الدروس التقليدية في الأقسام الدراسية أو المختبرات أيضا.)) (كمال بداري، نظرة عامة على مشروع المدرسة الرقمية في الجزائر، جريدة الشعب، عدد 18813، الخميس 17/03/2022م، ص 19). ويرى هذا الباحث لتجيير هذا المشروع ولنجاحه عبر الخطة المرحلية المرسومة ثلاثة مبررات عالمية شكلية وظاهرية، وهي في تقديري تبدو لي أنها غير مؤثرة في مسار المجتمعات المتخلفة فضلا عن مؤسساتها المتخلفة، كالتسارع التكنولوجي والإلكتروني والفجوة الرقمية المذهلة بيننا وبين الآخر المتقدم، وما توفره وتسمح به التكنولوجيات الرقمية من فعالية في عملية التعليم والتدريس، والمراهنة على تحويل الأوامر السلطوية إلى مطالب شعبية لسكان لا يتمتعون بالكهرباء أو الغاز فضلا عن أن يتمتعوا بشبكات التواصل الإلكتروني، التي تشهد تقطّعات وضعفا متكررا يوميا، بحيث لا تسمح لهذه العمليات كي تزيد من فاعليتها (بروقرس، منصة التعليم عن بُعد) كأمثلة لذلك التدفق العالي في عالم الأوهام.. وهذا أمرٌ مضحك لأن اللحاق لا يكون بهذه الارتجالية والسرعة، فعلى سبيل المثال والتفكُّه عن اللحاق بالفجوة الرقمية، أنقل لكم حادثة جرت معي مؤخرا، وملخصها أنني تقدمت لشراء تذاكر طائرة للسفر إلى إحدى الدول العربية في الشهر الماضي من الخطوط الجوية الجزائرية بباتنة مصطحبا معي (البطاقة الذهبية) لأجري المعاملة المالية بواسطتها، فما كان من الموظف إلاّ أن ضحك وقال لي ساخرا بالحرف الواحد: (هذا في التلفزيون فقط)! ولحسن الحظ كنت أصطحب معي المبلغ فدفعته نقدا.. وطرحت هنا التساؤل التالي: لماذا تصرُّ السلطة على إدخال هذا التعامل في ميدان التربية والتعليم وهي عاجزة عن فرضه في المؤسَّسات الاقتصادية كمرحلة وخطوة أولى؟

ودون الدخول في صميم التفاصيل التقنية، نود فقط وبحسن نية معتقدين أيضا حسن نية السلطة، تنبيهها إلى آلية المرحلية والتدرج، وحتى نضمن عدم خرق الدستور في تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع الجزائري، نقترح تطوير وتوسيع حصة الإعلام الآلي لتصير حصة تطبيقية رقمية تستعمل فيها اللوحات الرقمية بشكل علمي وتقني فعال، أو تخصيص نصف يوم من الأسبوع للتعامل مع عالم اللوحات الرقمية بشكل علمي لائق وفعال، وتطوير وتحديث كفاءات التلاميذ في التعامل مع اللوحات الرقمية تمهيدا لنقلهم لقراءة النصوص وكتابتها ومعالجتها شيئا فشيئا، حتى نصل بعد سنوات إلى ردم هذه الفجوة الرقمية بخطى وئيدة وثابتة، ودون ضجيج أو صخب إعلامي الهدف منه تطمين المؤسسات الدولية المفلسة والمنحازة للمترفين.. ونأخذ بكثير من الاتزان والهدوء والمرحلية والتدرج بيد المجتمع ليصير رقميا في سائر المؤسسات بدءًا بالأهم فالمهم، وساعتها نكون بالفعل قد حققنا شيئا من وعود الجزائر الجديدة، مع عدم إهمال مراحل المتابعة والدراسة والنقد والتقييم والتقويم ودراسة الآثار والتحولات والنتائج والفوائد والمضارّ.. وهذا لن يكون إلّا إذا وُسِّد الأمر لأهله، أما إن بقيتم تتجرعون سموم ونفايات المعاهد والمؤسسات والمخابر المشبوهة التي يسيطر عليها المفلسون من أصحاب البضاعة التغريبية الكاسدة فوالله لن تروا نور التقدم والمدنية الراشدة.. والمهم عندي: أللهم اشهد أني بلغت.. والأهم: أن تعوا وتتعظوا وتعتبروا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • السنا سوى تراب ..

    اقترح إخضاع الوزارة إلى تعليمة جهاز أمني عصي لإعادة المناهج

  • فاكهة الجبل

    العرض باطل هكذا يتسبب الربح السريع

  • البشير بوكثير / رأس الوادي

    جزاك الله تعالى خيرا دكتور ..