المسؤولون وعقدة اللغة الأجنبية
كتب (إتيان برينو) Etienne BRUNO، وهو أحد المفكرين الفرنسيين العارفين بخبايا النخب المغاربية والمتابع للشأن الإسلاماوي، كتب، على إثر الانتخابات التشريعية الملغاة في الجزائر (1991) يقول: “لقد استمعنا (وصدقنا) خطاب النخب المخترقة ثقافياtransculturées les élites ، المكونة على شاكلتنا في جامعاتنا، وفي أغلب الأحيان من طرفنا. هذا الخطاب الذي يتماشى وطمأنينتنا الإيديولوجية، كما أنه يلائم مصالحنا”.
جاء نقد (إتيان برينو)، وغيره من الكتاب والصحفيين الفرنسيين للنخبة المفرنسة الجزائرية على إثر النتيجة التي حققتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية في تلك السنة، حيث رأوا أن النخبة المفرنسة الجزائرية “الثملة” أو “النشوانة” بتمكنها من اللغة الفرنسية، لا تتعامل مثل النخبة المغربية، أو التونسية أو اللبنانية التي استعملت اللغة الفرنسية كنافذة مفتوحة على الغرب. نافذة تمكن المواطنين من رؤية ما يجري في الجهة الأخرى للمتوسط والاستفادة من العلوم والبحوث والثقافة الغربية لتنمية اللغة والعلوم والثقافة الوطنية.
قالت العديد من الصحف الفرنسية، في ذلك الوقت، أن النخبة المفرنسة الجزائرية بلغتها وصحافتها ومواقفها السياسية، ابتعدت تماما عن الجماهير، بل وأكثر من ذلك، فهي تتوجه إلى هذه الجماهير، خلال الحملات الانتخابية، باللغة الفرنسية، وكأنها تتوجه إلى فرنسيين والى فرنسا. عندما نأخذ بعين الاعتبار نسبة الأمية التي تقارب 30 بالمائة من الشعب إضافة إلى مئات الآلاف من الشباب الذين توقفوا عن الدراسة قبل الوصول إلى المرحلة الثانوية وكذلك الذين تابعوا أو يتابعون دراستهم بالمدرسة الأساسية، نستطيع أن نؤكد بأن النخبة التي لها طموحات سياسية عندما تمارس الاتصال باللغة الفرنسية فهي لا تتوجه إلى شعبها. ممارسة الاتصال مع الشعب الجزائري، وفي هذه الظروف، باللغة الفرنسية، يمكن اعتباره من باب الإهانة لهذا الشعب. هذه الممارسة تصنف الأميين والذين لا يفهمون اللغة الفرنسية في وضعية أدنى من وضعية “الأهالي” أيام الاستعمار الفرنسي حيث كان ضباط (لاساس) عندما يتوجهون إلى السكان المسلمين يستنجدون بمترجم لينقل إلى الجزائريين ما كان أولئك الضباط يودون تبليغه للأهالي.
أتذكر كل عبارات النقد، وحتى الشتم، التي وجهتها الصحافة الفرنسية على إثر تلك الانتخابات الملغاة للنخبة المفرنسة الجزائرية كلما استمعت إلى مسؤول جزائري كبير يتوجه إلى الشعب الجزائري أو إلى ضيوف الجزائر باللغة الفرنسية.
عندما كنت استمع للسيد الوزير الأول عبد المالك سلال هو يحدث نظيره التركي باللغة الفرنسية كنت أتساءل: لماذا يفعل هذا؟
صحيح أننا كثيرا ما نستعمل اللغة الفرنسية في أحاديثنا اليومية، وصاحب هذه الكلمات من الذين ينصحون طلبته دوما بتعلم اللغات الأجنبية باعتبار أنه لا يمكن إنجاز البحوث والاطلاع على ما يجري في العالم باستعمال اللغة العربية وحدها.
صحيح أيضا أنه يوجد وضع خاص في الجزائر يجعل الغلبة، في الإدارة، للغة الفرنسية حيث لازالت كل الاجتماعات تدار بهذه اللغة وكل المسؤولين الكبار يتعاملون بين بعضهم البعض بنفس اللغة، لكن كل هذا لا يعلل التوجه للشعب أو للضيوف الرسميين للجزائر بغير اللغة العربية.
في زمن سابق، كانت فرنسا تهتم كثيرا بانتشار لغتها وتدعم من يكتب بها ويتكلمها ومن يستعملها ويعلمها ومن يشجع على نشرها خارج حدودها، غير أن متطلبات العولمة والمستجدات، في مجال الاقتصاد، وتواجد الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل جديد في المنطقة العربية وصعود تيارات معادية للغرب وللعصرنة عموما وانتشار التعليم باللغة العربية وازدياد حدة المطالب بانتخابات نظيفة ونزيهة وشفافة بالإضافة إلى عجز النخب المفرنسة في فرض نفسها، من خلال الانتخابات، على الشارع الرافض لهذه النخب لانسلاخها لغويا وفكريا عنه، كل هذا جعل مصادر القرار في فرنسا تغير، خلال العشرين سنة الأخيرة، كثيرا في ترتيب الأولويات بحيث لم تعد اللغة الفرنسية هي المقياس الأول في التعامل مع هذه الفئة أو تلك أو مع هذا الحزب أو ذاك.
يوجد اعتقاد في الجزائر، لا أدري مدى نسبة الخطأ أو الصحة فيه، يقول أن الوصول إلى منصب القاضي الأول في الجزائر يمر حتما عبر باريس ومن لا ترضى عليه فرنسا لا يستطيع أبدا أن يكون رئيسا للجزائر. هذا الاعتقاد هو راسخ في أذهان الكثير من المسؤولين الجزائريين لذلك تجدهم يحاولون كسب ود فرنسا ودعمها لهم عن طريق استعمال لغتها في الداخل وفي المحافل الدولية بما فيها تلك التي تحضرها الدول العربية.