المسؤولية والقابلية للخدمة
روى لي صديق كان يعمل في إحدى مؤسسات الدولة الجزائرية في بداية التسعينيات وغاب عن المصلحة التي كان يعمل بها لفترة من الزمن، بسبب مواصلة الدراسة، كيف أنه لما عاد، بعد انتهاء فترة التكوين، فوجئ بوضعية جديدة، فرئيس المصلحة الذي كان عين من فترة قصيرة أحدث “ثورة” على مستوى الهياكل المركزية والجهوية حيث عمد إلى تغيير كل المسؤولين بمن هم أقل كفاءة. السؤال الذي حير صديقي هو: كيف تمكن هذا الشخص الوارد من جهة أخرى، وفي وقت قياسي، من معرفة من هم الأسوأ وبالتالي تفضيلهم على غيرهم من الأكفاء؟
هذه الواقعة تذكر بما حدث في الاتحاد السوفييتي أيام قوته وعزته، حيث كانت هناك مصلحة تابعة لجهاز الاستخبارات السوفييتي (الكا جي بي) تنشط بطريقة أقلقت الولايات المتحدة الأمريكية. في مناسبة ما، تمكن أحد الجواسيس الأمريكيين من الاقتراب من رئيس المصلحة السوفييتية وقدم له طلبا بسيطا جدا مقابل مبالغ معتبرة من العملة الصعبة تتكفل مصالح السفارة بإيصالها له بصفة دورية وبوسائلها الخاصة. الطلب الأمريكي لا يتمثل في الحصول على معلومات إستراتيجية ولا في كشف عملاء الدولة السوفيتية بل فقط أن يسعى، كلما أتيحت له الفرصة، إلى تعيين أسوأ الإطارات على رأس فروع المصلحة التي يتولى رئاستها.
يقال أنه بعد فترة من الزمن، فقدت المصلحة السوفييتية كل حيويتها ونشاطها ولم تكتشف قيادة (الكا جي بي) علاقة رئيسها بالمخابرات الأمريكية إلا بعد فترة طويلة وبمحض الصدفة حيث لاحظ زملاؤه ومعارفه بأن مستواه المعيشي تغير بشكل ملحوظ وأنه يصرف الكثير من الأموال مما جعلهم يضعونه تحت المراقبة ليكتشفوا تلقيه لمبالغ مالية من الولايات المتحدة الأمريكية.
الحادثتان تبينان كيف أنه يمكن تدمير الدول بدون اللجوء إلى الحروب. بوسائل بسيطة جدا يمكن تجميد نشاط مؤسسات حكومية أو تحويلها إلى معرقلة لتطور المجتمع. يكفي وضع شخص غير كفء أو مرتش أو مصاب بعقد نفسية ما على رأس مؤسسات معينة لجعل أفضل الكفاءات وأكثرها وطنية وإخلاصا تغادرها تاركة المجال للعاجزين والمتملقين والفاسدين.
المسؤول الجزائري قد يكون تصرف بالسليقة، لأنه لا يمكن اتهامه بالعمالة، فمستواه التعليمي بسيط جدا، مما قد يكون جعله يتجنب العمل مع الكفاءات التي وجدها بتلك المصلحة فعمد إلى تغييرها بمن يبدي له الولاء والطاعة العمياء والاستجابة لرغباته دون مناقشته.
الطاعة والاستجابة لرغبات المسؤول الأول دون مناقشته، هي الصفات الأساسية المطلوبة في كل إطار جزائري يريد تولي مسؤولية ما أو الحصول على ترقية وظيفية. هذه الظاهرة بدأت تبرز في الجزائر منذ وفاة الرئيس هواري بومدين، وراحت تنتشر لتشمل كل مؤسسات الدولة حيث أصبحت المناصب والمسؤوليات تسند لمن يخدم أكثر ولمن يتحايل أفضل على القانون. هذا الوضع، جعل كل الإطارات الجزائرية النظيفة والنزيهة والمتمسكة بالنظم والقوانين تبدو في نظر غيرهم في صورة الأغبياء الذين لازالوا يتمسكون بالمبادئ.
إنها “لابلويت” حقيقية نلك التي طالت الكفاءات الوطنية في مسارات أخذت صورة حملات مقصودة ومخطط لها كي تُفرغ مؤسسات الدولة الجزائرية من كل الوطنيين المخلصين الذين، حتى عندما أتيح لهم، أن يعملوا في العسل رفضوا تذوقه. إطارات لم تمد يدها ولو لفلس من أموال الدولة فعاشت الغربتين: غربة العمل مع محيط معاد، وغربة نظرات الشك الموجهة لهم حتى من طرف أبنائهم الذين لا يدركون لماذا كل هذه الفوارق المادية الموجودة بين مستواهم المعيشي وبين مستوى جيران أو أقارب لهم نفس المؤهلات ويعملون في نفس المؤسسة.
إنها “القابلية للخدمة” أو la servitude التي أصبحت المقياس الأساسي المعتمد لدى تعيين المسؤولين في الجزائر. كل من له صلاحية التعيين لا يختار إلا من تتوفر فيهم “القابلية للخدمة” لأن هذا الرهط وحده من يقبل القيام بالمهام القذرة وتجاوز النظم والقوانين والانبطاح حد المهانة.
كل من له صلاحية التعيين في مؤسسات الدولة الجزائرية لا يهتم إن سارت المؤسسة أو المصلحة أم لم تسر بل كل ما يهمه هو ما يقدمه له من يضعه على رأس هذه المصلحة أو تلك المؤسسة.
عملت، في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تحت مسؤولية الجنرال يحي رحال، رحمه الله، وهو من الضباط الجزائريين الذين التحقوا بالثورة من مقاعد الجامعة حيث كان يدرس الطب، وكان يجيد اللغات العربية والفرنسية والانجليزية والروسية وله إلمام كبير بالثقافة وكان من ميزاته أنه يفضل العمل مع الكفاءات الشابة. ذات مرة، حدثني هذا الرجل، وهو يتأسف، عن الصفات التي يجب أن تتوفر في من يريد أن ينجح في الحياة المهنية قائلا بأن كل ما تقدمه للمؤسسة يدخل في إطار مهامك وأنت مطالب بالقيام بذلك وبالتالي هذا كله لا يحسب لك، مهما برعت فيه، بل ما يفيدك هو ما تقدمه لمسؤولك مباشرة ويفيده هو بالذات. المسؤول الجزائري لا يهمه سوى ما يقدم له ويفيده هو أما خدمة المؤسسة فذاك آخر ما يفكر فيه.
إنها “القابلية للخدمة” ولأن الكفاءة تتنافى أصلا مع كل قابلية مهينة أو غير أخلاقية أو غير قانونية فإن أسوأ الإطارات هم دوما من يتولون المسؤوليات.
إنه ما يفسر سوء التسيير والفساد الذي عم مؤسسات الدولة الجزائرية وعليه فأي كلام عن أي إصلاح يقوم به نفس هؤلاء هو احتقار لذكاء المواطن.